أغرب "الصوم" في تاريخ الشعوب والأقوام

أغرب "الصوم" في تاريخ الشعوب والأقوام
الصوم دعوة إلى التجديد الروحي والبدني.

يعد الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات، ذات الالتصاق الوطيد بالضمير الإنساني؛ فلهذه العبادة من المقومات الذاتية ما يجعلها في مطلق السرية، سواء أداها المرء بشكل فردي علانية أو قامت بها جماعة من المؤمنين، ذلك لأن الصوم لا يتحقق من خلال القيام بالفعل، بل بالامتناع عن أفعال وترك للأشياء، وهنا تكمن تلك السرية، فبمقدور كل إنسان أن يثبت أنه مفطر، ولكن لا أحد يستطيع أن يثبت أنه صائم.
تحدث شعيرة الصوم تغييرا أو بالأحرى تؤدي إلى إيقاف مؤقت لرتابة الحياة لدى الإنسان، وقطع للعادات التي دأب عليها الإنسان ردحا من الزمن، بفرض إيقاع جديد في نظام العيش "الأكل والشرب..."، فيما يشبه الابتلاء والاختبار، قصد التأكد من مدى صدق الاعتقاد، ودفع المؤمن إلى التفكير وإمعان النظر فيما كان ينعم به من خيرات، كأنه بصدد مراجعة لإيمانه الروحي؛ بتحديد مدى قربه أو بعده الديني من خلال طقس الصوم.
يجمع معظم الأديان، والفلسفات على اعتبار الصوم دعوة إلى التجديد الروحي والبدني، على امتداد التاريخ الإنساني، فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، كما كان الصوم لدى بعض الحضارات ممارسة جماعية قصد اتقاء الكوارث والمجاعات، وحولته شعوب أخرى إلى جزء من طقوس الإعلان عن بلوغ أفرادها سن الرشد.
رافق الصوم كطقس من الطقوس الروحية البشرية القديمة، فهو حاضر في أغلب الديانات، حيث نجده بأشكال وصور مختلفة لدى جل الأمم وفي معظم الحضارات، ما يعني أن هذه الممارسة كانت رديفة الإنسان منذ القدم، بل تحولت إلى ركن أساس في كل المعتقدات تقريبا، فمارسه على مدار آلاف الأعوام ملايين البشر، بطقوس فريدة وعادات غرائبية، بحسب ما تفرضه معتقداتهم الإيمانية.
حضر الصوم كطقس مرتبط بالموت لدى الشعوب البدائية، وفي هذا يورد جيمس فريزر في كتابه "الفلكلور في العهد القديم"، أن الأرامل في قبائل كوتو في الكونغو وقبيلة سيهان في مدغشقر كن يعلن الحداد على أزواجهن ثلاثة أشهر قمرية، يصمن عن الكلام ويتجردن فيها من مظاهر زينتهن. وقد حاول هذا الأنثروبولوجي البريطاني البحث عن هذا الصوم في الديانة اليهودية، بعدما لاحظ أن كلمة أرملة بالعبرية تعني المرأة الصامتة، وأشار القصص القرآني "بشارة زكريا، ولادة مريم المسيح" إلى هذا الصوم لدى بني إسرائيل.
أقام قدماء المصريين فريضة الصوم، قصد التقرب إلى أرواح الموتى، وميزوا بين صوم العامة "الشعب"؛ ويكون أربعة أيام من كل عام، تبدأ بطلوع شمس اليوم 17 من الشهر الثالث من فصل الفيضان، وصوم الكهنة؛ وله مواعيد محددة بمدد تراوح بين سبعة أيام و42 يوما. وتذهب حفريات بعض اللغويين إلى أن كلمة "صوم" باللغة الهيروغليفية أصلها "صاو"، وتعني "امتنع وكبح".
شكل الصوم لدى الصابئة الركن الخامس من أركان عقيدتهم، حيث يصومون في الصوم الأكبر أياما معدودات؛ تبلغ 36 يوما كل عام، موزعة على مدار أشهر العام، وتجاوز صومهم الإمساك عن الأكل والشرب، نحو الامتناع عن نحر وقتل الحيوان، وعن كل ما يشين الإنسان وعلاقته بالرب من فواحش، ويفطرون في يوم عيدهم على لحم الخروف، ومن الفضائل عندهم في الصوم الأصغر، صوم الأيام التي تظهر فيها ظواهر فلكية كالخسوف والكسوف.
وتتخذ الديانة الإيزيدية الصوم مظهرا من مظاهر تعذيب النفس لنيل الرضى، فيمتنع الإزيدي عن الأكل والشرب والكلام التافه أثناء تأدية فريضة الصوم، وينقسم إلى صوم العامة، يدوم ثلاثة أيام، الثلاثاء والأربعاء والخميس في الأسبوع الثاني من الشهر الـ12 من كل عام؛ ويسبق التقويم الإيزيدي التقويم الشمسي بمدة 11 يوما، بعد ذلك يأتي يوم العيد المعروف باسم "عيد أيزي"، أما صوم الخاصة فيمتد 80 يوما؛ نصفها في فصل الصيف، والنصف الآخر في فصل الشتاء.
كان الصوم عند اليونان شعائر من وضع الكهنة، أحاطوها بخبايا وأسرار منقسمة إلى أسرار صغرى وأسرار كبرى؛ تقام الأولى قرب أثينا في فصل الربيع، حيث يغمر فيها طلاب الأسرار أنفسهم بالماء، فيستحمون ويصومون، ثم يعاد الأمر بالنسبة إلى طلاب الأسرار الكبرى، وتدوم مدة الصوم أربعة أيام؛ لمن حاز الأسرار الصغرى، تنتهي بعشاء رباني، يجمع معشر من نالوا الأسرار الكبرى الجدد والقدامى، إحياء لذكرى الإله رملتر.
تعرف الهند أغرب أنواع الصوم، فلدى أتباع الطائفة اليانية يتنوع الصوم ما بين تناول الطعام مع عدم الشعور بالشبع، وبين الصوم التام الذي لا يتضمن أي طعام أو شراب، وبين الصوم الذي يتضمن شرب الماء المغلي فقط، لأنه يطهر الجسم من الأمراض، إلا أنهم جميعا يتبعون صوما نباتيا صارما، ويصوم اليانيون ثلاث مناسبات في العام لأكثر من أسبوع، وفي اليومين 14 و18 من دورة القمر. ويبقى "السانثار"، أي الصوم الطوعي حتى الموت خيارا مقدسا لمغادرة العالم، أشد أنواع الصوم غرابة، يموت جراءه سنويا أكثر من 200 إنسان.
تجاوز الصوم في البوذية الإمساك عن الأكل والشرب إلى الصوم عن العمل، فالتعاليم البوذية تفرض صوم "اليوبوزاتا" وهو أربعة أيام من كل شهر قمري؛ "1 و9 و15 و22" بالتوافق مع منازل القمر الأربع، ويمنع فيها القيام بأي عمل ما عدا التأمل، فحتى طعام ما بعد انتهاء الصوم للأيام الأربعة، عادة ما يتم تحضيره في اليوم السابق، لحرمة القيام بأي نوع من الأعمال.
سيطول المقام عند الاستغراق في سرد تفاصيل شعيرة الصوم لدى جل الأديان التي تقر هذا الطقس الديني على أتباعها، فالديانات المتجاهلة للصوم كممارسة ضمن تعاليمها تكاد تكون معدودة على أصابع اليد الواحدة، في مقدمتها الزرادشتية والسيخية.. ويبقى المفيد أن شعيرة الصوم كعبادة ليست غاية في حد ذاتها، بقدر ما المقصد منها ما يكتسبه المؤمن في تلك التجربة من سمو وضبط النفس والصفاء النفسي والجسدي، وتهذيب الروح بحرمانها مدة زمنية محددة من بعض ملذات الحياة، للارتقاء بها، وهذا ما تميزت به الديانة الإسلامية بفرضها صيام شهر رمضان.

الأكثر قراءة