رفع مستويات التنمية الإنسانية.. مفتاح المستقبل المنشود
انتهت رحلة أكثر من 12 عاماً من العمل الدؤوب لأجل إتمام متطلبات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وتُوّجت تلك الجهود المضنية بإعلان السعودية العضو الـ 49 في أكبر نادٍ دولي للتجارة العالمية يسيطر على أكثر ثلاثة أرباع الحركة التجارة الدولية في العصر الراهن. انتهى الحديث عن ماذا نفعل لإتمام الانضمام، وبدأ الحديث عن ماذا يتوجب على السعودية القيام به خلال المرحلة المقبلة لا لأجل البقاء فقط! بل لأجل استمرار رفع مؤشرات الأداء الاقتصادي في جميع قطاعاته، خاصةً تلك القطاعات التي انكشفت أمامها ساحات المنافسة القوية مع مثيلاتها دولياً، وفق مواجهاتٍ سيغيب فيها الدعم الحكومي يوماً بعد يوم في مدى زمني لا يتجاوز السنوات العشر!
يقف اقتصادنا اليوم على أرضية صلبة ومتينة يتجاوز نطاقها 1.2 تريليون ريال، رسّخت أقدامه ضمن أهم 20 اقتصادا في العالم، يُتوقع أن يتجاوز نموه الحقيقي بنهاية هذا العام 2005 نحو 6.0 في المائة حسب أحدث تقديرات صندوق النقد الدولي، مقارنةً بنحو 5.2 في المائة حققها في عام 2004. أي أن معدل النمو الحقيقي للاقتصاد السعودي مستقرٌ فوق 6.3 في المائة خلال الفترة من 2003-2005، وهذا مؤشرٌ قوي على متانة هذا الاقتصاد النامي، وجديرٌ بنا المحافظة على بقائه هكذا طوال الفترة المستقبلية القادمة، ولا شك أن ما يمتلكه هذا الاقتصاد من مزايا نسبية في مجال البتروكيماويات يمكن أن تلعب دوراً محورياً يخدم مصالحنا وأهدافنا الاستراتيجية.
فعلى صعيد تطورات التجارة الخارجية السعودية للعام الحالي، يتوقع أن تنمو بأكثر من 34.6 في المائة مقارنةً بحجمها في عام 2004 لتتجاوز سقف الـ 860.8 مليار ريال، وهو معدل نمو يفوق ما تحقق بين عامي 2004 و2003 البالغ 31.1 في المائة، وتعكس هذه المؤشرات الدرجة المتقدمة التي وصل إليها انفتاح الاقتصاد السعودي على الاقتصاد العالمي، والفرص السانحة أمامه بعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية لأن يُضيف مزيداً من الإنجازات إلى هذا الطريق البالغ الأهمية في أسواق التجارة الدولية، وكانت نسبة التجارة الخارجية السلعية إلى الناتج المحلي الإجمالي قد وصلت بنهاية 2004 إلى 67.9 في المائة، ويُتوقع أن تتجاوز نسبة انفتاح الاقتصاد السعودي على الاقتصاد العالمي بنهاية هذا العام سقف الـ 73 في المائة بنهاية العام الراهن.
ما التحديات التي تعترض طريقنا ؟
طرحتُ في مقالٍ سابق عدداً من الأسئلة الجوهرية التي يجدر بنا التفكير في الإجابة عنهما ونحن في طريقنا إلى المضي قدماً ضمن المسارات الجديدة للمنافسة الدولية الحامية الوطيس، وتساءلتُ عن ماذا أنجز الاقتصاد السعودي خلال الفترة الماضية ؟ وماذا ينجز الآن ؟ وماذا يجب عليه إنجازه خلال السنوات العشر المقبلة؟، وأشرتُ إلى أن هذه الأسئلة الرئيسة مفاتيح الإجابة عن كيفية إيجاد المرتكزات الأساسية لاجتياز تحديات ما بعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. إننا بحاجةٍ ماسّة إلى وضع "استراتيجية أولويات التنمية" لمرحلة ما بعد الانضمام، تتركز على تطوير وتنمية جميع القطاعات الرئيسة في الاقتصاد الوطني، يتم تنفيذها خلال جدولٍ زمني واضح ودقيق، وبصورةٍ لا تقبل التأجيل أو التباطؤ من قبل أي جهازٍ حكومي أو محسوبٍ على القطاع الخاص، لعل من أهم ما يجب أن تتركز عليه تلك الاستراتيجية العاجلة تلبية الحاجات المتنامية للاقتصاد السعودي في المجالات الحيوية المهمة كقطاعات التعليم والطاقة والنقل والماء والصحة والتمويل، وتتصاعد أهمية هذه القطاعات لارتباطها بالإنسان السعودي، خاصّةً قطاعي "التربية والتعليم" و"الصحة" التي تتكفل ببناء وإعداد الإنسان وتوفير جميع المتطلبات المعيشية والصحية الملائمة.
هذا بالإضافة إلى بقية التحديات الاستراتيجية التي تتجه صوب إزالة جميع المعوّقات البيروقراطية، ومعالجة مختلف الاختلالات التنظيمية المعوقة التي تواجهها المشاريع التجارية والصناعية القائمة أو التي يُزمع تدشينها مستقبلاً، وهذا من شأنه أن يعزز من توجهاتنا الاقتصادية نحو تنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد السعودي. فحسبما أشارت إليه النتائج المتوافرة عما تحقق على صعيد التنويع الاقتصادي في السعودية، فلم تتجاوز متوسط نسبة إسهام قطاع الصناعات التحويلية في إجمالي الناتج المحلي 7.8 في المائة خلال الفترة من 1970-2004، وهو ما يُشير إلى تدنّيها بصورةٍ لا تكفل لها تكوين قاعدة إنتاجية تتمكن من خلالها من تعزيز النمو الاقتصادي، والمحافظة على استقراره، وتتجلى أهمية هذه القضية فيما يتعلق بقطاعي الزراعة والخدمات. ولعل مما يبعث على التفاؤل بزيادة فرص نجاح سياسات التنويع الاقتصادي في السعودية، ما أظهرته الأرقام الأخيرة، ففي منظور السنوات العشر الماضية ارتفع متوسط نسبة إسهام قطاع الصناعات التحويلية في إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة من 1995 - 2004 إلى 10.1 في المائة، علماً بأنه فاق 10.7 في المائة في عام 2003. وتبرز أهمية النجاح في هذا الاتجاه أن التنويع الاقتصادي سيساعدنا على تجاوز الآثار السلبية التي تخلّفها التقلبات الكبيرة في الأسعار العالمية للبترول غير المأمونة على أداء الاقتصاد الوطني.
ما سبق يتطلب بالضرورة دعم الصادرات، وما سيتيحه هذا العمل بدوره في زيادة معدلات نمو الاقتصاد الوطني ككل، والإسهام في تحقيق التوظيف الأمثل للطاقات الإنتاجية، وتوفير فرص العمل للمواطنين الباحثين عن عمل، ومن المؤكد أن عملية تنمية وتمويل الصادرات تُعد من أهم عوامل دعم ميزان المدفوعات وتحقيق التوازن الخارجي والمحافظة على استقرار أسعار الصرف للريال السعودي، كما سيؤدي تشجيع الصناعة المحلية بمختلف مجالاتها وخاصةً الصناعة الموجهة نحو التصدير إلى الخارج، إلى فتح مجالات وأسواق جديدة أمام المنتجات السعودية غير البترولية، ولدى الاقتصاد السعودي فرصة استغلال الوقت الممنوح من منظمة التجارة العالمية "عشر سنوات" لأن يوجد المحفزات الضرورية واللازمة التي تقوي من موقف صناعاتنا المحلية، وجعلها تصل إلى أيادي المستهلكين في الأسواق العالمية، ولا شك أن مثل هذا العمل يتطلب اتخاذ الإجراءات الملائمة التي تساعد فعلياً الشركات والمصانع السعودية العاملة في مجال التصدير، على التغلب على العقبات ومعايير المنافسة الدولية التي تحول دون وصولها إلى الأسواق العالمية.
أيضاً تبرز أهمية استمرار الاندفاع الجاد والدؤوب نحو خلق مزيدٍ من القنوات الاستثمارية التي تمتص الوفورات المالية المتوقع استمرار تدفقها بصورةٍ كبيرة مستقبلاً، والعمل على توجيهها نحو ما يعزز من الاستقرار الاقتصادي، والاستفادة منها في تمويل المشاريع الحيوية السالفة الذكر، التي من شأنها توطيد ليس فقط ركائز الاقتصاد؛ بل ستكفل لنا وللأجيال السعودية القادمة مستقبلاً، حياةً مملوءة بالخيارات الحياتية الجيدة والمثلى، لذا فمن الملائم أن تستمر الحكومة في سعيها نحو إفساح المجال أمام القطاع الخاص للقيام بدوره الرائد في تفعيل أركان الاقتصاد المحلي، وزيادة وتائر نشاطه وزخمه الكفيلة بنقل أداء الاقتصاد إلى مستويات أعلى تتوافق مع طموحنا ومتطلبات أجيال المستقبل. لذا يجب العمل على تحقيق الأهداف الاستراتيجية للخطة التنموية الوطنية لنراها واقعاً يخدم مصلحة الاقتصاد والدولة والمجتمع، التي تتمثل في: تحويل الاستثمار من القطاعات والأنشطة ذات الإنتاجية المنخفضة إلى القطاعات والأنشطة ذات الإنتاجية الأعلى. وتيسير نقل الأساليب الإدارية الحديثة والتقنيات المتقدمة من خلال تبني عمليات الإنتاج والمنتجات التي تم تطويرها في البلدان المتقدمة اقتصادياً وإقامة روابط إنتاجية قوية مع الشركات العالمية الرائدة. وتشجيع البحوث والدراسات التي تستهدف تطوير المنتجات التي تتمتع فيها السعودية بميزات نسبية أو تتوافر لها القدرات اللازمة لتحقيق هذه الميزات النسبية. وتهيئة المناخ الاقتصادي والتنظيمي لزيادة الإنتاجية مع الاستمرار في بناء المزيد من التجهيزات الأساسية واتباع نظام الحوافز التي تساعد على تحسين الكفاءة.
أمرٌ آخر يجب ألا يفوت علينا هو الانتباه إلى الخطورة الكبيرة التي ستحدق به بعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، والمتمثل بالتحديات الجسيمة التي ستواجهها المنشآت الصغيرة والمتوسطة، والتي تلعب دوراً كبيراً في توفير فرص الوظيفية لعمل السعوديين، إضافةً إلى ما تقوم به من دعمٍ لتوجه التنويع الاقتصادي وزيادة الإنتاجية وتوفير المرونة للاقتصاد الوطني. وكما سبق ذكرت في مقال سابق فإن حشد إمكانات مثل هذه المؤسسات وتحديثها يتطلبان التغلب على بعض المعوقات التي تحد من أنشطتها وإسهاماتها والتي من بينها الحاجة إلى دراسات الجدوى الاقتصادية، وكذلك تهيئة هذه المنشآت عند انتقال ملكيتها إلى الجيل الجديد، كما أن هناك حاجةً ماسّة إلى العمل على زيادة الإنتاجية والكفاءة الإدارية في هذه المنشآت. وتدل أغلب الدراسات التي أُجريت حول المنشآت الصغيرة والمتوسطة أنها تُعاني تدني مستويات التنظيم والإدارة، ويعود ذلك بصفةٍ أساسية إلى افتقار هذه المنشآت إلى الكوادر الفنية والخبرات الإدارية الحديثة وضعف التزامها بالمعايير المحاسبية وحفظ السجلات السليمة، فضلاً عن عدم توافر القدرات الفنية المطلوبة لإجراء أبحاث السوق والأنشطة الترويجية، كل هذا يستدعي وضع الآليات المناسبة لتقديم المساعدة والتدريب وإسداء المشورة لهذه المؤسسات، بما يُفضي إلى تحسين أوضاعها. كما تواجه المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ولا سيما في قطاع الخدمات صعوبات في تلبية متطلبات الضمانات الخاصة بالقروض والأنواع الأخرى من الائتمان المطلوبة من قبل المؤسسات المالية، ومؤسسات الإقراض الحكومية المتخصصة، الأمر الذي يحد من فرص التمويل المُتاحة لتلك المؤسسات، ويضعف من كفاءتها الاستثمارية مما يتطلب حث المصارف التجارية على تخصيص نسبة مئوية من قروضها لهذه المؤسسات وبشروط ميسرة، بالإضافة إلى ضرورة قيام مؤسسات الإقراض الحكومية المتخصصة ولا سيما بنك التسليف بتوفير احتياجاتها من القروض أو ضماناتها.
أيضاً تمثل المعالجة العقلانية والعملية لانخفاض معدلات توظيف العمالة الوطنية في العديد من القطاعات الاقتصادية المهمة؛ إحدى أهم المهام اللازم القيام بها في المنظور المستقبلي الممتد حسب رؤية هذه الورقة إلى عام 2020، يتبعه بالدرجة نفسها من الأهمية استمرار العمل على رفع مستويات الدخول الحقيقية لبعضٍ من فئات المجتمع المنسوبة إلى الطبقات المحدودة الدخل أو الفقيرة. لا شك أن خطط السعودة الراهنة قد أثبتت عدم تحقيقها لأدنى درجات النجاح حتى اليوم، وللدلالة على صحة ما أقول هنا، لننظر إلى المقارنة بين الإحصاءات الأخيرة الفعلية عن حجم القوى العاملة في السعودية من جهة وما كانت تخطط له خطة التنمية السابعة، إننا سنجد بعدها الكبير عما كانت تأمل به! فقد توقعت خطة التنمية السابعة أن يصل عدد إجمالي العمالة السعودية بنهاية 2004 إلى نحو 4.0 مليون عامل، فيما أظهرت الأرقام الفعلية عن حجم العمالة السعودية أنها لم تتجاوز الـ 1.4 مليون عامل فقط! أي بفارقٍ فاق الـ 2.6 مليون عامل، وهذا مما يدعو إلى كثيرٍ من القلق وعدم الوثوق بجدوى تلك الخطط، خاصّةً إذا علمنا أن الخطة نفسها كانت تتوقع أن ينخفض حجم العمالة غير السعودية بنهاية الفترة نفسها إلى 3.5 مليون عامل؛ فيما كشفت الأرقام الفعلية أن حجمها قد فاق الـ 5.4 مليون! أي بفارقٍ يتجاوز حتى حجم العمالة السعودية في السوق. وفي ضوء هذه المقارنة يحق لنا التساؤل الجاد عن إمكانية وجود فرص حقيقية لنجاح خطط السعودة في الاقتصاد السعودي أمام التحديات المقبلة! وكيف سيكون الوضع في نهاية عام 2020 الذي تتوقع فيه الخطة التنموية أن يصل عدد العمالة السعودية إلى 8.3 مليون عامل! هل سيكون حلماً بعيد المنال قياساً على ما تجهر به الأرقام الرسمية الفعلية الظاهرة أمامنا هنا ؟!
مفاتيح المستقبل المنشود ..
يمتلك الاقتصاد السعودي مفاتيح صناعة المستقبل المنشود، وتتوافر لديه الإمكانات الهائلة لأن يجتاز التحديات السابقة، وحتى تلك التي لم نأت بذكرها، ولعل من تلك المفاتيح الدور الكبير الذي تلعبه هذه البلاد في ترسيخ الاستقرار العالمي بخصوص الإمدادات من الطاقة، والذي تُشير إليه التوقعات المستقبلية حول زيادة اعتماد العالم عليها كمصدرٍ موثوق به في هذا المجال. إننا على موعد مستقبلي قريب سننتج فيه أكثر من 12 مليون برميل نفط يومياً بحلول 2009، وبعيداً عن التوقعات التي تشير إلى إمكانية ارتفاع أسعار النفط لما فوق الـ 80 دولارا أمريكيا للبرميل، والأخرى التي تتصوره فوق الـ 100 دولار أمريكي للبرميل، فإن مردودها بأسعار اليوم حسب المتوسط 56 دولارا للبرميل يُشير إلى أن مردوداتها المالية ستفوق الـ 900 مليار ريال! ولنا أن نتخيل الكم الكبير من القدرات والفرص التي ستتفتح أمام الاقتصاد السعودي لأن يتقدم على طريقه الذي اختطته قيادته الرشيدة لأجل احتلال مكانته المرموقة بين دول العالم، وأعضاء نادي التجارة العالمية التي كما سنفتح أسواقنا لها ستكون أسواقهم أيضاً مفتوحة لنا بالقدر نفسه من الانفتاح.
ولكن، ما المفتاح الأهم الذي بين أيدينا ؟ ما ذلك المفتاح الذي سيرجح كفّة الميزان بغض النظر عن حجم أو وعورة تلك التحديات الجسيمة؟ دون أدنى تردد أشير إلى أنه الإنسان! الإنسان هو رأس المال الأول في أي بلد في العالم، وحوله تتمحور كل تشكّلات الحكومات والمجتمعات وما يتفرّع عنها من مكوناتٍ مؤسساتية أو أهلية. في بدايات حقبة الطفرة النفطية الأولى في السبعينيات الميلادية تفتقت الخيرات من مكنون الأرض عن أهم موارد بناء العالم اليوم ممثلاً في النفط، وأتاح لنا فرصاً ذهبية تمكنت من خلالها بلادنا من إنفاق ما يربو على 4.5 تريليونات من الريالات على بناء وتأسيس البنى التحتية للدولة والمجتمع السعودي، واستطعنا خلال ثلاثة عقودٍ الانتقال بقدرات الاقتصاد السعودي من اقتصاد بدائي يعتمد على الزراعة والرعي إلى أحد أهم عشرين اقتصاداً في العالم، وانخرطت البلاد في وتيرة تحولات متسارعة ومتنامية إلى أن اكتمل معها بناء هيكل الدولة والاقتصاد في منظومة مؤسساتية فريدة من نوعها، وأصبحت النهضة الشاملة التي عمّت أرجاء البلاد القصة الفريدة في كتاب الحديث عن حقائق التنمية في العالم الثالث. وبسبب اختلاف الطبيعة الإنسانية عن بقية المعطيات المادية من حوله من رأس مال وموجودات مادية، فلم يكن بالإمكان تحقيق التواءم بين سرعة التغير في الواقع المادي الذي أمكن إحداث تغييرات جذرية فيه خلال أقل من ثلاثة عقود من جهة، وسرعة تغيير الإنسان السعودي إلى ذلك الوضع الذي يتناسب مع ما حوله من متغيرات داخلية أو خارجية. ودون أدنى شك؛ فقد قطعنا شوطاً طويلاً في هذا الاتجاه، ولكن بقي ما يجب إنجازه مهما بلغت التحديات والتكاليف، فكما استطعنا أن نشيد على أراضٍ شاسعة الأطراف كل هذه النهضة الاقتصادية والعمرانية، فلن يتأخر إنسان هذه البلاد العظيمة عن اللحاق بركب الحضارة العالمية، والدلائل على توافر الإمكانية والقدرة لدى الإنسان السعودي جلية وظاهرة لكل العالم، والمتبقي برغم المعوقات الكبيرة التي تقف بيننا وبينه، متاحٌ لنا بفضل ما يتوافر لدينا من قدرات وإمكانات مادية ومعنوية، فقط علينا اختيار أفضل السبل لأجل تحقيقه. أشرت في أكثر من مرة إلى أهمية انطلاق فلسفة التربية والتعليم – ونحن بصدد تطوير مناهجها- من حيث انتهت اللجنة الدولية للتعليم في القرن الواحد والعشرين، حينما وضعت تصوراتها عن التعليم في المستقبل وللمستقبل عام 1996، وما نتج عن تلك الرؤى والتصورات المهمة بأن تبنّت تلك اللجنة الدولية شعار "التعلم مدى الحياة"، وكيف أصبح ذلك الشعار ذو المعنى العميق منذ تاريخ إعلانه، إطاراً عاماً ومحوراً أساسياً تدور حوله جهود وفعاليات تربية وتعليم المستقبل، وقد تضمن هذا الشعار أن : التعلم للعلم، التعلم للعمل، التعلم للعيش مع الآخرين، وأخيراً التعلّم للكينونة، هذه المضامين التي تمثل أعمدة المعرفة الأربعة ومرتكز الدور المعرفي للتعليم في القرن الراهن، وإنها لأجدر من غيرها من المقترحات المتعددة لأن نأخذ بها.
سيتجاوز عدد سكان هذه البلاد بحلول عام 2020 الـ 34 مليون نسمة حسب تقديرات الأمم المتحدة، يفوق السكان من سن 15 عاماً إلى ما دون الـ 60 عاماً 21.4 مليون نسمة، أي ما يقارب 63 في المائة من إجمالي السكان، يمثلون عصب النشاط الإنساني، ويتوقع أن يُشكّل نصفهم أي ما يفوق الـ 10.5 ملايين نسمة قوة العمل المحلية، والبقية يشكّلون المنتظمين في سلك التعليم العام والعالي، تلك أرقام سنواجهها بعد 15 عاماً فقط! إننا نتحدّث عن ضعف عدد طلاب وطالبات اليوم، وعن سبعة أضعاف حجم قوة العمل الوطنية الآن! إن القضية أكبر من زيادة مخصصات المالية لقطاع التربية والتعليم، إنها منصبة بالدرجة الأولى على تطوير مناهجنا التعليمية بما يتواءم مع متطلبات أسواق العمل المستقبلية، التي تتغير بسرعة كبيرة ترتبط بالتغلغل العميق للعوامل التكنولوجية والتخصصات الحديثة في مجالات الإدارة والاقتصاد والتخصصات العلمية المتعددة الأخرى. لذا، يتطلب النجاح في تأهيل مفتاح المستقبل المتمثل بالإنسان كثيراً من الإنفاق والجهود المضنية والمستمرة، ذاك هو الطريق الذي ينتظر مرورنا، وذاك هو مفتاح بوابة المستقبل.
* عضو جمعية الاقتصاد السعودية
[email protected]