التنمية المستدامة تستلزم وجود قوة عاملة فاعلة ومستديمة
بفضل ارتفاع أسعار النفط أخيرا، تشهد المملكة الآن طفرة جديدة تبشر بأنها ستكون أعمق أثراً على التنمية في البلاد مما كان عليه الحال في السبعينيات وأوائل الثمانينيات. وهذا لسبب بسيط هو أن التنمية الآن لن تحدث من فراغ ولن تبدأ من الصفر فهناك قاعدة صلبة يمكن أن ينطلق منها البناء في كل الميادين مثل البنية التحتية، والتعليم، والاقتصاد وغيرها. ويستلزم هذا الأمر قطعاً الاستفادة من دروس، وعبر، وتجارب السبعينيات والثمانينيات لأننا الآن، وبحمد الله وفضله قد حققنا إنجازات كبيرة، ومشينا خطوات عملاقة إلى الأمام، فيجب علينا أن نستفيد مما أنجزناه وأن نتجنب في الوقت نفسه أخطاء الماضي التي تمثلت في الهدر، والفساد، وسوء التخطيط، والسذاجة الاقتصادية.
والحمد لله قد انتهت الأيام التي كنا نتخيل فيها أن السعودية يجب أن تحقق الاكتفاء الذاتي في كل شيء أو أنها يمكن أن تستورد كل ما يحقق لها الرفاهية. لقد كان إنفاق ثروة البلاد النفطية على الواردات الضخمة من السلع والبضائع أمراً يسعد الدول الصناعية لكنه كان بلا شك نوعاً من الغباء الاقتصادي إن جاز التعبير.
اليوم، تعرف المملكة العربية السعودية، وهي السوق الأكبر في الشرق الأوسط، ماذا تريد وإلى أين تذهب. والاقتصاد اليوم، وهو نتاج خبرة تراكمية امتدت لأكثر من 30 عاماً، لا يتمحور حول التنمية فقط لكن التنمية المستدامة. هذا يعني الاستخدام الحكيم لموارد المملكة والاستثمار في المشاريع المجزية اقتصادياً وليس من الحكمة التنافس في مجال الزراعة مع مصر أو تركيا اللتين تمتلكان كميات وافرة من المياه، أو التنافس مع الصين والهند لأنهما تصنعان كل شيء وتمتلكان الأيدي العاملة الرخيصة. وتعتبر المياه المجانية في كل من مصر، وتركيا، والأيدي العاملة الرخيصة في كل من الهند والصين ميزات إضافية للدول الأربع.
وللمملكة موردان أساسيان هما المعادن الهايدروكربونية والمواطن السعودي. وحتى الآن تركزت التنمية المستدامة على الثروات المعدنية، فلا يكاد يمر يوم دون نقرأ ونشاهد إعلاناً عن افتتاح مشروع عملاق. وكان المبدأ الذي نسترشد به هو تنوع الاقتصاد لكي لا نعتمد بشكل أساسي على النفط لكن هذا القول لم يكن صحيحاً تماماً لأننا كنا، وسنظل إلى حد كبير، نعتمد على النفط والغاز كمورد رئيسي للدخل وكعنصر أساسي للصناعات البتروكيميائية لإنتاج المواد البلاستيكية، والأدوية والألياف الصناعية وغيرها للتصدير خصوصا أن المملكة الآن عضو في منظمة التجارة العالمية مما يستدعي الصادرات الرخيصة إلى الدول المستوردة. هذه هي التنمية المستدامة التي تستخدم فيها الثروات الطبيعية لصالح المملكة.
وسيؤدي هذا إلى تغييرات متلاحقة خاصة في المنطقة الشرقية حيث من المتوقع أن توجد أكثر من 200 ألف وظيفة جديدة في الصناعات البتروكيميائية الجديدة خلال السنوات العشر المقبلة وأيضاً في قطاع الخدمات المساندة لهذه الصناعات.
وستزداد هذه الفرص الوظيفية مع نمو وتكامل الاقتصاد في دول مجلس التعاون الخليجي الذي تعتبر المنطقة الشرقية محوره ومركزه.
وستكون هناك تدفقات كبيرة للأعمال القائمة على المعرفة من أجل خدمة اقتصاد دول مجلس التعاون حيث تعرف المستثمرون بالفعل على إمكانيات المنطقة في هذه الناحية وبدأوا بالتحرك. ومن المتوقع أن تشهد السنوات الخمس المقبلة تحولاً دراماتيكيا يمتد من الخبر إلى الجبيل اللتين ستتحولان إلى مدينتين صناعيتين وتجاريتين كبيرتين.
ولن تكون التنمية المستدامة ذات مغزى إذا لم تتوافر لها القوى العاملة الدائمة. لهذا فالعمل الذي يلزمنا القيام به هو إعداد المواطن السعودي، رجلاً كان أو امرأة، بالمهارات التي يحتاج إليها الاقتصاد. وهذه المهارات تتضمن، مع أشياء أخرى، أخلاق العمل المتعارف عليها دولياً.
ويمثل هذا تحدياً للقطاعين العام والخاص على حد سواء. ويحتاج القطاع الخاص إلى الموظفين المدربين والمتحمسين لكي ينمو ويزدهر، فمن مصلحته إذن مثل الحكومة تماماً، أن تتوافر لديه المهارات المطلوبة. ولقد رأينا شركة أو اثنتين مثل شركة عبد اللطيف جميل المحدودة وهى تنشئ مراكز خاصة لتدريب الشباب الذين تركوا الدراسة. ولا يعني تدريب هؤلاء الشباب الالتحاق تلقائيا بالشركة لكن بعضهم قد ينشئ أعماله الخاصة.
لكن ليس كل الشركات كبيرة أو لها إحساس بالمسؤولية الاجتماعية مثل شركة عبد اللطيف جميل المحدودة لتقوم بمثل هذه الأعمال الخيرية والإنسانية الرائعة، لهذا فأعتقد أن الوقت قد حان للغرف التجارية لكي تنشئ كليات وأكاديميات للتدريب المهني لصالح القطاع الخاص.
ونحتاج أيضاً إلى إنشاء المزيد من المؤسسات التعليمية لأن سكان المملكة وعددهم الآن 16 مليون نسمة، ليس لديهم غير ثماني جامعات فقط بالإضافة إلى سبع جامعات أخرى و50 أكاديمية للتعليم العالي سيتم إنشاؤها في إطار الخطة الخمسية الثامنة، لكن هذا ليس كافيا لتحقيق الاقتصاد القوي القائم على المعرفة الذي تطمح له المملكة العربية السعودية.
ولعل من المفارقات اللطيفة أن نذكر هنا أن تايوان، وعدد سكانها يماثل عدد سكان المملكة تقريبا، وليست لها موارد طبيعية تذكر، بها نحو 159 جامعة بالإضافة إلى الكليات التعليمية الأخرى التي يؤمها أكثر من مليون طالب وطالبة. ونتيجة للتركيز على التعليم، أصبحت تايوان الآن من الدول الرائدة في مجال تقنية المعلومات.
ولاشك أن الحكومة قد وعت الدروس المستفادة من السباق المحموم نحو التنمية الذي حدث في السبعينيات وأوائل الثمانينيات حيث إنها اتجهت الآن إلى التخطيط المتأني للمشروعات، والتقييم الحذر للمردود مما يعني أن أي شيء يتقرر تنفيذه ، سيكون مستداماً . والفرق الكبير الثاني بين المرحلة السابقة من التنمية والمرحلة الحالية هو أن مسؤولية الاستثمار قد ألقيت بشكل كامل تقريباً على كاهل القطاع الخاص. وخطة التنمية الخمسية الثامنة التي أعلنت أخيرا لا تركز على الاستثمارات الحكومية بقدر ما تركز على أين تريد الحكومة من القطاع الخاص أن يستثمر. وهنا فإن دور الحكومة هو دور المحفز فقط الذي يعين القطاع الخاص على أداء دوره.
لقد كانت السنوات الثلاث الأخيرة عبارة عن فترة للتحرر الاقتصادي حيث وضعت الأنظمة الجديدة وأزيلت العوائق توطئة للدخول في منظمة التجارة العالمية. وتحققت العضوية، وازداد الاهتمام بالمملكة خاصة في قطاع البتروكيمائيات. وسيتم إيجاد الوظائف الجديدة لكن يبقى الكثير الذي يجب عمله خصوصا وأن مسيرة الخصخصة لا تزال بطيئة. وصحيح أن السعودية تسير إلى الأمام لكن المنافسين يسيرون بسرعة أكبر. لقد عادت لنا الأيام الجميلة السابقة بفضل ارتفاع أسعار النفط لكن لا ينبغي أن نركن إلى المجد السابق بل يجب أن نغتنم الفرصة المواتية اليوم لننهض بالاقتصاد السعودي لمصلحة البلاد ولخير الأجيال القادمة.
رئيس تحرير "عرب نيوز"
[email protected]