رحلات الرحالة الغربيين إلى الجزيرة العربية

كان الرحالة الغربيون في مثل هذه الأيام من العام ينشطون ويكثرون من زيارة الجزيرة العربية، وبالذات منطقة مكة المكرمة بحجة جمع معلومات عن تاريخ الحضارات القديمة التي قامت في هذه المنطقة، وبالذات عن الحضارة الإسلامية التي شع نورها من بطاح مكة المكرمة، ولكن هذه الجولات من الزيارات انقطعت مع منتصف القرن الـ20.
وقليلا ما نسمع اليوم بجولة أو جولات يقوم بها رحالة غربيون من أوروبا أو أمريكا إلى مناطق شبه الجزيرة العربية، وأصبح الغربيون الواصلون إلى دول الخليج هم من المستثمرين الذين يبحثون عن المال والأعمال.
وإذا أردنا أن نستعرض أهم الرحلات وأهم الرحالة، فإن رحلة شارل ديديه إلى الحجاز كانت من أهم الرحلات التي قام بها الرحالة الغربيون إلى منطقة الحجاز، وشارل ديديه فرنسي من أصل سويسري عشق الأدب والشعر وعلم النبات والتاريخ والرحلات، واشتغل بالصحافة وصدرت له عدة كتب ودواوين شعرية.
إن شارل ديديه قام بزيارته إلى الحجاز وألف كتابا بعنوان (رحلة إلى الحجاز)، ويتطرق الكتاب بالحديث عن كثير من مظاهر مدينة جدة التاريخية ثم يزور الطائف ويشملها بالحديث، كما يتحدث شارل ديديه في استفاضة عن مكة المكرمة، ولكن قبل أن يتحدث عن المدن الحجازية الثلاث أفاض في الحديث عن بعض المناطق المصرية التي زارها وهو في طريقه إلى الحجاز مثل السويس والطور وسيناء ومناطق تطل على البحر الأحمر.. حتى ختم كتابه بموضوع حمل عنوان (مغادرة جدة)، وفي جدة استعرض ديديه مواهبه الفكرية وكتب عن مجمل ما كسب من هذه الرحلة الثرية على حد قوله.
ويركز فكر شارك ديديه في كتبه التي تحدث فيها عن رحلاته إلى بلاد العرب على تحليل عبقرية الإنسان أكثر من دراسته لعبقرية المكان والعمران، ولقد حاول ديديه أن يبعد عن نفسه التهم التي كثيرا ما يوصم بها الرحالة الغربيون.
ويأتي الرحالة وليم بلجريف في المكانة الثانية بالنسبة للرحالة الغربيين الذين ارتحلوا إلى منطقة الحجاز، حيث وصل منطقة الحجاز في 1865 وألف كتابه الموسوم بـ(قصة رحلة عام عبر وسط الجزيرة العربية وشرقها)، ويتميز هذا الكتاب بأنه كتاب يقدم مؤلفه كمثقف وصاحب معارف عديدة، وهو بالفعل كتاب معارف وثقافات وسياسة واجتماع ودين ودنيا.
وبلجريف رحالة بريطاني لم يخف رغبته التجول في ربوع العالم العربي، ولذلك ذهب إلى لبنان وأقام في زحلة فترة من الوقت ودرس العربية بعمق حتى أتقنها، واستطاع بلجريف أثناء إقامته في لبنان أن يتوغل في المجتمع اللبناني، ويبدو أن بلجريف له علاقة مع المخابرات الغربية، حيث كان على تواصل مع الشخصيات الغربية المهمة في المنطقة العربية، ومن بينهم فردينالد دي لسبس صاحب فكرة بناء قناة السويس.
ولم يكتف بلجريف بتأليف كتاب عن الجزيرة العربية، بل كان كتابه (قصة رحلة عام عبر وسط الجزيرة العربية وشرقها) الذي صدر في مجلدين من الكتب المهمة التي صدرت عن مجتمع الجزيرة العربية في تلك المرحلة، وبذلك أصبحت كتب بلجريف عن مجتمع الجزيرة العربية من أهم المراجع التي كان يرجع إليها الدارسون والباحثون في شأن جزيرة العرب وأهلها.
ولكن الغريب بالنسبة إلى هذا الرحالة المثير للجدل أنه تعرض لاتهامات من بعض الرحالة الغربيين زعمت أن بلجريف لم يقم برحلاته في وسط وشرق الجزيرة العربية، وأن كتبه مجرد تجليات أدبية من أديب موهوب صنع في خيالات الفكر والكتابة، ولكن في مواجهة هذه الحملة ضد بلجريف نهض شيوخ الرحالة الأوروبيون وصادقوا على رحلات بلجريف إلى جزيرة العرب، وأشادوا بفكره المستنير. ومن أمثال شيوخ الرحالة الأوروبيين داوتي وبلنت اللذان عدا كل القصص التي أوردها بلجريف صحيحة، ويزيد عليهما لورانس ويضع بلجريف في مصاف فيلبي وتوماس، بل إن جاكلين بيرين في كتابها (اكتشاف جزيرة العرب.. خمسة قرون من المغامرة) أشادت بكتب بلجريف، وقالت إن كتب بلجريف إضافة مهمة لأدب الرحلات. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يعد الرحالة البريطاني جون فيلبي أكثر الرحالة الذين قاموا بأعمال فكرية جليلة، وأصبحت كتبه مراجع مهمة عن الجزيرة العربية، وعبدالله فيلبي ألف عن المناطق الأثرية في المملكة، وخص جدة بكثير من المقالات ومن كتبه الثرية: "الربع الخالي، وأيام عربية، وقلب الجزيرة العربية، وأرض مدين، وبعثة إلى نجد، وأربعون عاما في البرية". وفي أيامه الأخيرة أعلن إسلامه وغير اسمه إلى عبدالله فيلبي، بل أقام في جدة وأسس مكتبه التجاري فيها، وظل يعيش فيها ولم يبرحها حتى وفاته، وما زال بيته في جدة في حوزة ورثة فيلبي.
وأخيرا في ضوء هذه الومضات عن جولات الرحالة الغربيين إلى شبه الجزيرة العربية، يتضح إلى أي حد كانت منطقة مكة المكرمة هدفا لزيارات مكثفة قام بها عدد من الرحالة الغربيين في القرن الـ19 وأوائل الـقرن الـ20.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي