ابن حميد بقية من السلف الصالح

لم يمت شيخ العلماء ورئيس القضاة الزاهد التقي النقي الإمام عبد الله بن حميد، بل قد امتدت حياته الدنيا بابنيه الربانيين الوقورين الشيخ صالح بن حميد والشيخ أحمد بن حميد. تشرفت بمعرفة شموس آل بن حميد لأكثر من 15عاما بدأت منذ تتلمذي على يدي الشيخ عبد الله ابن حميد من خلال الجلوس إلى جهاز التسجيل أستمع إلى مئات من الأشرطة المسجلة لدروس العقيدة والفقه والتفسير التي كان ـ رحمه الله ـ يتطرق إليها في شروحاته لأمهات الكتب، وما زلت أذكر المحيط الروحاني الذي كان ملازما لدروس الشيخ والذي دفعني لأخذ إجازة من عملي لمدة ثلاثة أشهر صرفتها مستمتعا بذلك الجو الروحاني المستمد من كتاب الله وسنة نبيه وحياة السلف حتى نفذت مني الأشرطة فكأنها عشر رمضان انقضت اُعتكافا في صحن رحاب المسجد الحرام.
ومن عاجل بشرى المؤمن أن يقر الله عين عبده بصلاح ونجابة أبنائه، فلعل الله قد اطلع على قلوب هذه الكوكبة من آل ابن حميد فجمع للشيخ صالح أشرف مناصب الدولة الإسلامية وأرفعها. فهو رئيس القضاة وإمام وخطيب المسجد الحرام من غير مطلب لها أو سعي إليها بل أتته طائعة راغبة منقادة فتقلدها طمعا في رضوان الله وطلبا لجنة عرضها السموات والأرض. وأما أخوه الشيخ الأصولي الوقور، القليل كلامه الغزير علمه وورعه، أحمد بن حميد فقد استخفى بظلال الزهد والورع، بارا بأمه مجاورا للبيت الحرام، ممتعا نفسه برياض العلم متلذذا بقيام الليالي الطوال وصابرا على صيام الهواجر في رمضاء أم القرى.
في مجلس الشيخ صالح بن حميد تعاقبت علي الذكريات وتداخلت في نفسي التأملات والعبر فتزاحم دمعي في محاجره فشاغلته بقبلات تشرفت بملامسة ناصية العالم الجليل. يا ويح دمعي ماذا دهاه حتى تدافع من مآقيه؟ ذكرى وعبرة فهذه شموس آل ابن حميد قد صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
 قلة من الناس أولئك الذين يُجمع الناس على حبهم، سواء الصالح منهم والطالح، الموافق والمخالف ومن هؤلاء القلة النادرة الأخوان الشيخان الجليان على اختلاف شخصيتيهما. فكلاهما متواضع دمث الخلق سهل المعاشرة ولكن يغلب على الشيخ صالح الانطلاق والتبسم ولا يأتيه أحد من الناس إلا ويظن أنه أحب الناس إلى الشيخ وأقربهم إلى نفسه. وأما الشيخ أحمد فيغلب عليه التفكر والتأمل وكأنه يرى القيامة وقد قامت ماثلة أمام عينيه. 
منهل الشيخين هو منهل أبيهما ـ رحمه الله ـ من قبلهما، الكتاب والسنة، ومنهجهما هو ما عليه السلف الصالح بتنزيل النصوص وفهمها على وقائع عالمنا المعاصر، المتغيرة أحواله المتجددة حوادثه من غير هوى ولا تأويل فحققوا بذلك جريان آية الله في تحقيق صلاح هذا الدين لكل زمان ومكان عن طريق الاتباع الصريح للكتاب والسنة وتطبيقا لمنهج السلف الصالح بإنزال النصوص منازلها اللائقة بها زمنا وحدثا ومكانا.  
قديما وأنا في عنفوان الشباب، (وما يلزم ذلك من مستلزمات فكرية)، كنت وما أزال قد تشربت المنهج السلفي الصافي النقي فكنت أنزل الأمور منازلها على الكتاب والسنة بفهم السلف لها الذين هم أعلم وأزكى وأتقى، ولكن بتجريدها من مناسبتها للزمان والمكان وملاءمتها للحدث حتى وفقني الله فجلست إلى الشيخ الزكي الذكي أحمد بن حميد أسائله في مسألة من مسائل السياسة الشرعية، فلله دره لم أر عالما ربانيا أصوليا سلفيا يفري فريه، فأراني المسألة على الطريقة العُمرية، مذهب الفاروق ابن الخطاب في استنباط الأحكام من الكتاب والسنة.
لله در الشيخين من أبيهما تعلمت المنهج السلفي الصافي النقي ومنهما تعلمت إنزال النصوص منازلها الزمانية والمكانية والمحيطية المناسبة لها. و أخرى لا أغفلها وهي التمحيص والتدقيق في النقولات عن الأشخاص والأخبار وعما يقال ويذاع هنا وهناك.
هذان الشيخان الجليلان يحكيان قصة بقية من بقايا السلف الصالح، علمائه وقضاته وزهاده. فأما الشيخ أحمد فقد توارى بلحاف الزهد والورع وآثر السلامة، وأما الشيخ صالح فقد شمر عن ذراعيه وصبر على الفتنة وعلى أذى الناس فأبرأ الذمة وأعذر إلى الله واستنزل النصر فنسأل الله له التوفيق والتسديد والهداية وأن يمده بحبل منه قوي شديد غير منقطع ولا مؤجل.
هؤلاء قوم لا دنيا عندهم فتُطلب ولا مال لديهم فيُمنح بل قربى إلى الله بحبهم تتحقق، فأشهد الله على حبهم وحب من يحبهم. هؤلاء هم سادات قومي فأتني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي