ثقافة التدليس
يعد الإنجاز من أهم المؤشرات الصحية لحيوية الأمم والشعوب، وأعني الإنجاز المؤسسي والشخصي على حدٍ سواء، ولا شك أن العمل والإنجاز يعتبران قنطرة التقدم والرقي على جميع الأصعدة والإنسان السوي يشعر بالغبطة والسرور عندما ينجز عملاً, كما ينعكس ذلك على ثقته بنفسه، والعكس تماماً عندما يخفق الإنسان أو تخذله قدراته فإن ذلك يؤثر سلباً في نفسيته وثقته بنفسه، وهذا الأمر مقررٌ عقلاً وشرعاً فقد جاء في الأثر "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن".
لكن ثمة ثقافةٌ وممارسةٌ بدأت تكتسح مجتمعنا، وتتجاوز هذه المُسلّمة العقلية، إنها ثقافة التدليس والتزوير، نعم تدليسٌ في الإنجاز وتزويرٌ في الحقائق وامتطاءٌ للإعلام وهوسٌ بحب الشهرة على حساب الوطن ومقدراته ومكتسباته، ولم تعد ثقافة التدليس حالةً فردية فيُغض الطرف عنها، بل غدت ظاهرةً يتطلب الأمر تعرية أبعادها وتوضيح تجلياتها.
دعوني أضرب لكم بعض الأمثلة لعلها تتضح المشكلات فنسهم أو نحاول الإسهام في حلها أو الحد منها أو على الأقل تحييدها في الجوانب الشخصية لتسلم منها المنشأة والأعمال المؤسسية، من مظاهر ثقافة التدليس تطبيع العلاقة من قبل بعض المسؤولين في الأجهزة الحكومية مع محرري الصحف العاملين في المؤسسة أو المنشأة وإغداق الحوافز عليهم وتقريبهم ليضمن سعادة المدير إطلالة صباحية شبه يومية من خلال الصحف والجرائد بأخبار وإنجازات مبالغ فيها، مع إجادة فن (الترزز )!، والمشكلة هنا ليست التغطية الإعلامية فهذا حقٌ طبيعي، لكن المشكلة اعتبار هذا الأمر معياراً ومحكاً للنجاح والإنجاز، يمارس هذا في ظل عدم وجود جهاز حكومي يعنى بالتقويم وقياس جودة الأداء والمساءلة والمحاسبة لجميع أجهزة الدولة المختلفة.
إن ثقافة التدليس التي عمت وطمت لا تحتاج إلى كبير مؤهلات, تحتاج فقط إلى أن تعرف كيف تركب الموجة؟ وكيف تناور إعلامياً؟ وكيف تستطيع أن تنمق تقارير الإنجازات وتضخمها ليستسمنها المسؤول وهي ذات ورم؟!
وقد لاحظتُ أن مثل هذه الممارسات مستساغة في بعض بيئات العمل بين بعض الرؤساء والمرؤوسين بل نجد من يصفق لأصحابها ويبارك جهودهم، مع أن "النصب ما يمشي على النصابة"!
والعجيب أن ثقافة التدليس بدأت تنتشر بالتزامن والتوازي مع أطروحات الشفافية والصراحة والتفكير بصوت مسموع! وغيرها من هذه المصطلحات التي استطعنا وبجدارة استقبالها وهضمها وإعادة إنتاجها بشكل مشوّه، بل وصل أمر ثقافة التدليس حتى في كتابة السيرة الذاتية.
لقد استطاعت ثقافة التدليس تشويه علم الإدارة إذ أفرغته من محتواه فنحن نتحدث مثلاً عن فشل أو ضعف بعض الحلول الإدارية كالتطوير والخصخصة والجودة الشاملة ناهيك عن المدارس الإدارية مثل المركزية أو البيروقراطية (إدارة المكاتب) ونذم هذه الحلول أو هذه المدارس ونحن أولى بالذم منها، فنحن وإياها كمن يحاول زراعة الفراولة في الصمّان أو في (حزم الجلاميد) أو في (أم الجماجم) فإذا فشلت الزراعة شتمنا فاكهة الفراولة ولعنا من استوردها! وما علمنا أن المشكلات كل المشكلات في البيئة لا في الثمرة!
في تقديري أن حقيقة المشكلات تتكون في مجموعها من هذا العنصر البشري ومدى توافر سمتين مهمتين فيه: هما عنصر القوة وعنصر الأمانة، القوة المهنية وباختصار التمكن من التخصص إضافة إلى عنصر الأمانة (إن خير من استأجرت القوي الأمين) (القصص: 26)، فنحن لن نستفيد من القوي الخائن كما لن نستفيد من الأمين الضعيف! وأنا أقولها بكل قناعة لقد عز اجتماع هاتين الصفتين في كثير من مؤسساتنا وممارساتنا، ولذلك تجد أن تطبيق كثير من مستجدات علم الإدارة كالخصخصة أو الجودة أو غيرهما فيها كثيرٌ من الصورية وقليلٌ من الحقيقة.
من أبرز الأمثلة هوس المؤهلات العليا، أو هوس (الدال) واغتصاب الشهادات العلمية لا سيما مع انتشار شقق الدعارة العلمية المتمثلة في فروع بعض الجامعات شبه الوهمية والتي وجدت رواجاً وسوقاً في مجتمعنا، بل باتت تنشر مرض نقص المناعة العلمية المكتسبة (حرف الدال المزيّفة) والتي تقدم لك الشهادة مبسترة في أشهر وإن شئت في أسابيع، ولم يسلم من هذا الداء حتى مَن عليهم علامات الصلاح والديانة! بل المصيبة الكبرى أن أكثر مرتادي هذه الشقق من رجالات التعليم، وقد أحسن أيما إحسان وزير التربية والتعليم السابق عندما أصدر تعميماً يمنع تدنيس هذه الدال للأوراق الرسمية، لكن ليت المنع طال الظهور في الصحف, وفي حقيقة الأمر كان هذا التعميم مبنياً على تعميم لوزارة الداخلية في هذا الصدد. إذا كان هذا شأن التعليم فسيرضع أبناؤنا - لا محالة - النصب والاحتيال! وقل على الأجيال السلام!
ومن صور ثقافة التدليس التي عمت كثيرا من مؤسساتنا حمى عقد المؤتمرات تلو المؤتمرات دون دراسة متأنية لأهمية المؤتمر وجدواه ومدى توافر الخبراء وأوراق العمل والبحوث الجادة، ولذلك لا تتعجبون إذا فقدت المؤتمرات أهميتها في ظل ثقافة التدليس, إذ ليس المهم ما سيطرح في المؤتمر بل المهم أن يعقد المؤتمر ويسجل إنجازاً وتستقطب وسائل الإعلام لتشارك في جرم التدليس في ظل ثقافة إدارية تدليسية لا تفرق بين الوسائل والغايات – وأستثني من هذا الحكم مؤتمرات التخصصات العلمية التطبيقية -، وقل مثل هذا في الجودة الشاملة والتطوير, فقد استطاع أناسٌ ركوبها وقطفوا يانع ثمارها ولا يهمهم بعد ذلك أن يتركوها خاويةً على عروشها، ليستعدوا لركوب موجةٍ جديدة، وأخشى ما أخشاها أن تكون العدوى قد أصابت جامعاتنا فيما يسمى الكراسي العلمية التي بدأت تتهاطل علينا هطول المطر على خط الاستواء!
يحكى أن أعرابياً بات في الصحراء في ليلة شاتئة قد اشتد بردها فلما نام احتلم فاستيقظ وهو على جنابة فصعب عليه الاستحمام بالماء البارد فما كان منه إلا أن نفخ القربة بالهواء وهي فارغة ثم صب هذا الهواء على رأسه وقال كلمته المشهورة التي صارت مثلاً في موروثنا الشعبي "كذاب في كذاب"! أي كذب في كذب يعني بذلك أن الاحتلام لم يكن جماعاً حقيقياً فليكن الاغتسال بماء غير حقيقي كذلك!
فهل تجرفنا أمواج "الكذاب" وهل تكتسحنا ثقافة التدليس؟! أم نجد وقفةً حازمةً من مسؤولي الدولة وأمنائها لهذه الكُذابية التدليسية؟!
خاطرة :
أغفى الوجودُ ونامَ سُمَّارُ الدُّجَـى
إلا أنـا والشعـرُ والأشـواقُ
وحدي هنا في الليلِ ترتَجفُ الْمُنَـى
حولـي ويرتعش الجوى الخفّاقُ
والنَّـاس تَحْتَ الليـلِ: هذا ليلُـهُ
وصـلٌ وهذا لوعـةٌ وفـراقُ