الأدب الساخر .. غابت السخرية وحضر الأدب
غابت السخرية وحضر الأدب.. هذه باختصار مأساة الأدب الساخر، الذي خفت وهجه في الأعوام الأخيرة، رغم حاجة الإنسان إلى الضحك، فهو القادر على التخفيف من الآلام والإحباط والهموم، ليصبح في تأثيره أقوى من العقاقير والأدوية.
تربع المصريون على عرش الأدب الساخر في العالم العربي، في ظل شبه غياب سعودي، ويعلل البعض ذلك بتجذر طبع السخرية لدى الشعب المصري في تكوينه منذ قديم الزمان، إذ يقال إن أول نص ساخر كتبوه كان قبل خمسة آلاف عام، عثر عليه في مخطوطات الفراعنة، حينما سخر عبد من سادته.
أعظم صور البلاغة
تستمد كلمة السخرية جذرها من التذليل، والساخر في الحقيقة يحاول إخضاع خصمه له، وفي هذا تشف عميق، وإراحة لنفسه المتعبة، وكذلك لاشتمال الكلمة على حرفي السين والخاء، اللذين يعبران عن الخبث والدهاء، والساخر أفعى ليس لها صوت حين تسير أو حين تسخر، لكنها تقتل بسخريتها.
في كتاب "السخرية في الأدب العربي"، الصادر في عام 1978 للدكتور نعمان محمد أمين طه، يؤكد أن السخرية طريقة من طرق التعبير، يستعمل فيها الشخص ألفاظا تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة، وطريقة من التهكم المرير، والتندر أو الهجاء الذي يظهر فيه المعنى بعكس ما يظنه الإنسان، وربما كانت أعظم صور البلاغة عنفا وإخافة وفتكا.
ويطلعنا طه على بعض الصفات التي يتصف بها الأديب الساخر، مثل أن يكون قوي الأعصاب، يحمل في طياته روح اللا مبالاة، على قدر كبير من الذكاء وقوة المخيلة أو الخيال الهازل، الذي يمكنه من اقتناص أو ابتداع الصور النادرة التي يستطيع بها إغاظة خصمه، وإضحاك نفسه والناس منه.
أمير الساخرين
في البادية كان شعر الهجاء هو سلاح الأدب الساخر، وكان عنيفا مستمدا من قسوة الحياة في الصحراء، ثم تطور وأصبح هناك نثر ساخر، مثل كتاب "البخلاء" للجاحظ، الذي سرد قصصا شتى عن البخل والبخلاء.
وفي مصر كانت وما زالت كتب ومجلات الأدب الساخر لها رواج كبير، يقودها كتاب تخصصوا في الكتابة الطريفة، مثل محمود السعدني وأحمد رجب وأنيس منصور وأحمد فؤاد نجم، واشتهروا بأن لهم إنتاجا غزيرا في هذا النوع من الأدب، بنى عليه وواصل المسيرة مجموعة من الكتاب والأدباء، ففي جولة لـ"الاقتصادية" على كتب الأدب الساخر وما تنتجه اليوم، وجدنا استحواذا مصريا عليها، مع شبه غياب للكتاب السعوديين، ففي المكتبة وجدنا كتب عمر طاهر بعناوينها الطريفة: "بعد ما يناموا العيال، الكلاب لا تأكل الشيكولاته، كمين القصر العيني، كابتن مصر، زملكاوي، جر ناعم، أقوال برما، من علم عبدالناصر شرب السجاير؟، شكلها باظت، ورصف مصر"، وكذلك كتب شريف أسعد "ذكريات ممنوعة، حواديت السعادة، اعترافات جامدة، وغير قابل للنشر"، إضافة إلى كتب مصطفى شهيب بعناوينها: "الحب في رغيف، كل الطرق تؤدي لـ60 داهية، بلد متعلم عليها، ورحلتي من الشك.. للشك برضه"!
المكتبات المصرية ملأى بعناوين ساخرة توحي بالضحك الموعود بين دفتي الكتاب، وعناوين رشيقة تحث القارئ على اقتناء الكتاب مثل: "جمهورية الضحك الأولى، كنتي سبتيه يمسكها يا فوزية، فيها حاجة حرشة، الإنس والجبس، عفريت من المعادي، رحلة الـ100 عبيط، وبرضه هأتجوز تاني"، وكتب الساخر بلال فضل مثل: "ضحك مجروح، ست الحاجة مصر، جمهورية العبث، والتغريبة البلالية".
ولا يمكن أن نمر على التجربة المصرية دون أن نذكر الراحل جلال عامر، أمير الساخرين، المتوفى في عام 2012، وكتب في حياته "مصر على كف عفريت" و"قصر الكلام"، ومئات المقالات في الصحافة، فعرف عنه كتابة الجملة الساخرة بسيطة الشكل كثيفة المعنى، ومنه نقتبس "كان نفسي أطلع محلل استراتيجي، لكن أهلي ضغطوا عليا لأكمل تعليمي"، "كل واحد يسأل الآن: مصر رايحة على فين؟ مش تسألوا قبل ما تركبوا؟"، "البلد دي فيها ناس عايشة كويس وناس كويس إنها عايشة"، "احنا الشعب الوحيد الى بيستخدم "المخ" فى السندوتشات" وآلاف الجمل المعبرة عن حال المواطن المصري.
وقبل أيام من وفاته ظل يردد "مشكلة المصريين الكبرى أنهم يعيشون في مكان واحد، لكن في أزمنة مختلفة".
أسف على المشهد
توليفة درامية يتضمنها الأدب الساخر، سواء كانت النقد والهجاء، التلميح، التهكم والدعابة، والغمز والهمز واللمز، فهي سلاح خطير، يربي على ملكة النقد، ويوقظ في الآخر الوعي بأخطائه.
وفي الثقافة الغربية كان الأدب الساخر أكثر ازدهارا، وظهر في كتابات نوعية، مثل كتاب فريدريك شليجل الناقد الألماني، الذي ابتكر مصطلح "التهكم الرومانسي"، الذي يمزج بين الأدبين الرومانسي والساخر، وعده أدباء بذرة غريبة لم تثمر أعمالا كثيرة في هذا الحقل، وقد أفرد الدكتور نبيل راغب نماذج تاريخية في الأدب الساخر، تضمنها كتاب يحمل الاسم نفسه، لا يتسع المقام لذكرها.
أما المشهد الأدبي اليوم، فلا أبلغ من وصف محمد جرادات الكاتب الأردني، الذي يفك شفرة السخرية في كتابه "الكتابة الساخرة في الصحافة"، ويأسف أن الكتابة الساخرة بدت في المشهد السائد اليوم بعيدة عن جوهرها، وكأنها اختلفت وخلعت ثوبها الحقيقي، لترتدي ما هو غير لائق بها في كثير من الأحيان، فأصبحت مليئة بالمديح والتبرير والدفاع عن الحكومات والسياسات، ولا تخلو من تناقضات بين مقالة وأخرى، فمرة تجد الكاتب الساخر يدافع ويبرر، ومرة تجده يهجم دون أن يمس أحدا، وبالتالي يستفاد منه ويوظف بما يخدم السلطة أكثر مما قد يعريها، أو يفضح سياساتها الخاطئة، كما أن أغلبية الصحف تميل إلى من يكتب وفق رؤيتها ورغبتها وسقوفها.
ولتستقيم الحالة الساخرة برمتها، ولتصويبها وتوجيهها إلى الطريق المطلوب، ولكي تعود إلى حالتها الجوهرية الحقيقية، أكد أهمية وضرورة وجود نقاد للكتابة الساخرة والكتاب الساخرين، يبتعدون عن المديح أكبر قدر ممكن، وقادرين على توجيه سهامهم إلى الكاتب الساخر، الذي يفترض فيه أن يوجه سهامه وهجومه إلى الجميع.
وتطرق جرادات إلى الصعوبات التي تعتري وصف الكاتب الساخر، فهل هو الكاتب الذي يكتب باللهجة المحلية؟ أم هو الذي ينهل من مفردات قصص التراث والحكايات الشعبية؟ أم هو الذي يكتب ليضحك الآخرين؟ أوصاف متعددة والفكرة واحدة.