المشكلة السكانية تؤرق العالم.. الزيادة تنهك الاقتصادات والتراجع عواقبه وخيمة على الإنتاج
خلال 1971 وقف رائد الفضاء الأمريكي جيم إيروين على سطح القمر، ومد ذراعه وأغلق إحدى عينيه ورفع إبهامه.
في تلك الصورة اختفى كوكب الأرض من الخلفية، واختفى معه 3.9 مليار نسمة كانوا عدد سكان الكوكب في ذلك الوقت.
وإذا أعيدت الكره الآن، فإن الكرة الأرضية ستختفي من الصورة أيضا، ولكن سيختفي معها 7.8 مليار شخص تقريبا هم عدد سكان الكوكب حاليا.
تلك الفقرات السابقة تتضمن نحو 56 كلمة، وفي اللغة العربية تحسب كل كلمتين بثانية تقريبا عند القراءة، أي أنك ستحتاج نحو 28 ثانية لقراءتها، وفي عالم اليوم يولد 4.4 طفل في الثانية، أي أنه خلال قراءتك لتلك الفقرات الصغيرة، زاد كوكبنا بنحو 125 طفلا، وإذا تطلب منك قراءة هذا التقرير بأكمله عشر دقائق في المتوسط، فعند الوصول إلى نهايته سيكون هناك 2640 طفلا جديدا قد ولدوا.
الانفجار السكاني ينهك الاقتصاد الوطني والعالمي، ويسهم في سرعة استهلاك الموارد المحدودة للكوكب، ويتسبب بقوة في تلوث البيئة وبالطبع المناخ.
باختصار بات الانفجار السكاني "صنما" تعلق عليه البشرية جميع أخطائها وخطاياها، وبالطبع لا يمكن لعاقل أن ينكر أن للانفجار السكاني مشكلاته وتحدياته، ولكن هل سألنا أنفسنا ماذا سيحدث إذا انخفض عدد سكان الأرض.
وقبل ذلك علينا أن نسأل هل يمكن أن ينخفض عدد سكان الكوكب ويتراجع؟، لا شك أن لتراجع عدد السكان مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية، لكنه غالبا لا يحظى الأمر بذات الدرجة من الأهمية أو النقاش العام، إلا في عدد محدود للغاية من البلدان المتقدمة مثل اليابان وألمانيا وبلدان الشمال الأوروبي في الغالب.
هل يبدو الأمر مفاجئا، مع التوقع ببلوغ عدد سكان العالم 9.7 مليار نسمة بحلول 2064، في حين أنه سينخفض إلى 8.8 مليار نسمة- تقريبا مليار نسمة– بحلول 2100، وأن دولا مثل إسبانيا والبرتغال وتايلاند وغيرها يرجح أن ينخفض عدد سكانها إلى النصف، وأن الناس في عديد من دول العالم باتوا ينجبون عددا أقل من الأطفال.
وبنهاية القرن الجاري سيتحول هذا الأمر إلى مشكلة كبيرة جدا للبشرية، ولن تتحقق الراحة المتوقعة بأن الحياة ستكون "وردية" إذا كان عدد السكان أقل.
تلك التوقعات، التي تسود عديدا من الأروقة الطبية والاقتصادية، تشير إلى أن 23 دولة من دول العالم سيتراجع عدد سكانها إلى النصف، وبالطبع ستشعر بتأثير ذلك اقتصاديا واجتماعيا.
من جهتها، تعلق الدكتورة ليزا أو كونور المتخصصة في علم ديناميكيات السكان في جامعة بلفاست على تلك التوقعات بالقول، "هذا تطور مهم وخطير، فغالبا التصور السائد بالنسبة للنمو السكاني أنه سيكون في تزايد ومستمر، ومن الصعب التفكير في اتجاه مخالف أو معاكس لذلك، ولكن ما تشير إليه تلك التوقعات الناجمة عن دراسات علمية وأكاديمية بأن عديدا من المجتمعات سيعاد تنظيمها اجتماعيا واقتصاديا بطريقة تتلاءم مع التطورات المتوقعة".
وتتساءل الدكتورة ليزا، "كثيرون يعتقدون أن عددا أقل من البشر سيكون أفضل لعالمنا المنهك الذي تستنزف وتتآكل موارده بسرعة شديدة، وتلك حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن هناك أيضا أسئلة يجب الإجابة عليها، فعدد أقل من الأطفال الذين يولدون سنويا يعني أن العالم سيكون أكثر شيخوخة، وهذا أيضا له تحدياته، فالشيخوخة السكانية مقلقة للغاية، وتتطلب تغيرات اجتماعية هائلة، فمن سيشترى ما يتم إنتاجه، فمع الشيخوخة يقل الاستهلاك، وإذا انخفض الإنتاج لتراجع الاستهلاك لن تستفيد الصناعات من مزايا الإنتاج الكثيف، وهناك أيضا تساؤلات تتعلق بمن سيدفع الضرائب في عالم سيتسم بالشيخوخة، وتلك الضرائب ضرورية لتمويل نظم الرعاية الصحية التي تزداد تكلفة يوما بعد آخر، وماذا عن سن التقاعد وهل سيتم دفعه إلى الأعلى ليصل إلى الـ70 عاما أو آكثر؟".
وتبدو العواقب الاقتصادية وخيمة أيضا إذا تراجع عدد سكان الأرض، ففي ستينيات القرن الماضي كان هناك ستة أشخاص في سن العمل لكل متقاعد، اليوم تبلغ تلك النسبة ثلاثة إلى واحد، وبحلول 2035 ستبلغ اثنين إلى واحد.
يبدو هذا الاتجاه مخالفا تماما لطفرة المواليد التي اجتاحت الكوكب بعد الحرب العالمية الثانية، ويرجع عدد من الخبراء إمكانية تحقيق تلك التوقعات إلى حصول مزيد من النساء على التعليم ودخولهن سوق العمل، ما يؤدي إلى تأخر سن الزواج والإنجاب.
يضاف إلى ذلك توفر وسائل منع الحمل على نطاق واسع وبتكلفة منخفضة، ويترجم ذلك حاليا في أن عديدا من الأمهات، وربما لأول مرة في التاريخ أكبر سنا، ولديهن عدد أقل من الأولاد، وفي معظم البلدان المتقدمة تجاوز معدل المواليد من النساء فوق سن الأربعين معدل النساء اللائي يبلغن من العمر 20 عاما أو أقل، خاصة أن حالات الحمل بين المراهقات قد انخفضت بشكل كبير.
لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك فأحد العوامل التي تلعب دورا مهما في خفض عدد سكان الكوكب موجودة منذ النصف الثاني من القرن الماضي.
فتزايد أعداد السكان المقيمين في المدن والهجرة المكثفة من الريف إلى المدينة نتيجة التصنيع ونتيجة توفر الخدمات خاصة التعليمية والصحية والترفيهية، عزز من اتجاه خفض عدد المواليد نتيجة الضغوط الاقتصادية، وانعدام الأمان الاقتصادي في كثير من الحالات. وتشير الإحصاءات إلى أنه في 1960 كان ثلث سكان الكوكب يعيشون في المدن، وقد ارتفعت تلك النسبة إلى 60 في المائة حاليا.
والانتقال من الريف إلى المدينة يغير الوضع الاقتصادي للقادمين الجدد، ويتغير معه عديد من المفاهيم، حيث العائلات الكبيرة في الريف خاصة في البلدان النامية تعني أن الأطفال سيعملون في الحقل بتكلفة نحو الصفر، بينما في المدن يعني مزيد من الأطفال مزيدا من الأعباء المالية والمادية لإطعامهم.
تشير آخر الإحصاءات الدولية إلى أن معدلات المواليد آخذة في الانخفاض على مستوى العالم، ويفسر عديد من الخبراء قرار الصين الأخير بالسماح بإنجاب ما يصل إلى ثلاثة أطفال إلى هذا السبب.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية"، الباحث جرثلاند بلاك الخبير في الشؤون الصينية، "جاء هذا الإعلان بعد أن شهدت الصين انهيارا في الخصوبة، ووفقا لآخر إحصاء سكاني صدر في شهر أيار (مايو) تفقد الصين نحو 400 ألف شخص كل عام، وعلى الرغم من أن الصين تدعي أن عدد سكانها يتزايد، فقد يبدأ انخفاض عدد السكان بحلول 2030، وكانت التوقعات السابقة أن يبدأ في 2050، تلك التغيرات السكانية ليست فريدة في نوعها، فوفقا لآخر تعداد سكاني في الولايات المتحدة، انخفض معدل المواليد لمدة ستة أعوام متتالية، وبـ19 في المائة منذ 2007 بشكل إجمالي، ومعدل المواليد في الولايات المتحدة الآن أقل بكثير من معدل الإحلال، الذي يبلغ 1.6، ومعدل الإحلال الآن في الصين 1.3، ولكي يحل بلد ما محل سكانه بشكل طبيعي، فيجب أن يكون معدل المواليد 2.1 على الأقل".
يمكن أيضا إضافة الهند ثاني أكبر بلدان العالم سكانا إلى قائمة البلدان منخفضة الخصوبة مع معدل إحلال 2.1، اليابان معدل الخصوبة فيها أقل من معدل الإحلال 1.3 روسيا 1.6 البرازيل 1.8 بنجلادش 1.7 وإندونيسيا 2، في المقابل لا يزال هناك عديد من البلدان الكبيرة ذات معدل المواليد المرتفع مثل باكستان 3.4 ونيجيريا 5.1، ولكن حتى تلك الأرقام أقل مما كانت عليه في 1960 عندما كانت باكستان 6.6 ونيجيريا 6.4.
من جهته، يعتقد البروفيسور مارفي كين من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن تلك التغيرات ستجبر البشرية على البحث عن حلول وتغير جذري في السياسات المعادية لفتح الحدود والمهاجرين، ومواجهة العنصرية.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "لن تشعر القارة الإفريقية بانخفاض عدد السكان إلا في وقت متأخر مقارنة بالآخرين، وسيتضخم عدد السكان في عديد من دول القارة، وبحلول 2100 يتوقع أن تكون نيجيريا ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان وأن يبلغ تعداد سكانها نحو 800 مليون نسمة، وحتى الآن لا يوجد تصورات تفصيلية للتعامل مع عالم به عدد أقل من السكان وأكثر شيخوخة، ولكن يمكن التعويل إلى حد كبير على الذكاء الصناعي والروبوتات، فبدون التكنولوجيا فإن البشرية قد تواجه أخطارا وجودية".
وبحسب تقرير للأمم المتحدة أدى ما شهدته مناطق في معظم إفريقيا جنوب الصحراء، وأجزاء من آسيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، من انخفاض في معدلات الخصوبة إلى ارتفاع نسبة السكان في سن العمل (25-64 عاما).
ويقول التقرير إن ذلك قد يوجد فرصة للتعجيل بالنمو الاقتصادي بفضل التوزيع العمري للسكان. وللاستفادة من هذا "العائد الديموغرافي" تنصح الدراسة حكومات العالم بالاستثمار في التعليم والصحة، خاصة للشباب، وبإيجاد ظروف مواتية للنمو الاقتصادي المطرد.
وعلى الرغم من أن التقرير يتوقع زيادة في متوسط العمر المفترض على مستوى العالم (من 64.2 عام في 1990 إلى 72.6 عام في 2019، ثم إلى 77.1 عام في 2050) إلا أنه يشير إلى أن النسبة في البلدان الأشد فقرا تقل بنحو 7.4 عام عن المتوسط العالمي. ويرجع التقرير ذلك إلى ارتفاع مستمر في مستويات وفيات الأطفال والأمهات، فضلا عن العنف والصراع والتأثير المستمر لوباء فيروس نقص المناعة البشرية.
ويورد التقرير أن عدد سكان العالم الأكبر سنا يتزايد الآن، بحيث صارت أعداد السكان المنضوين تحت فئة الـ 65 عاما أو أكبر هي الأسرع نموا، إذ يمثلون واحدا من بين كل ستة أشخاص في العالم. وبحلول 2050، يمكن أن تصل نسبتهم في أوروبا وأمريكا الشمالية إلى واحد من بين كل أربعة أشخاص. وحسب التقرير، ولأول مرة في التاريخ، فإن عدد من بلغت أعمارهم 65 عاما أو أكثر (2018) فاق عدد الأطفال دون سن الخامسة على مستوى العالم.
ويقول التقرير إن انخفاض نسبة السكان ممن يعدون في سن العمل سيضغط بشدة على أنظمة الحماية الاجتماعية، وإن أعداد من هم في سن العمل، مقارنة بمن تجاوزوا سن الـ 65 تتناقص في جميع أنحاء العالم، وتؤكد هذه النسبة المنخفضة، التأثير المتوقع الذي ستتركه شيخوخة السكان في سوق العمل والأداء الاقتصادي والضغوط المالية، التي سيواجهها عديد من البلدان في العقود المقبلة.
شهدت 27 دولة أو منطقة انخفاضا 1 في المائة أو أكثر في عدد سكانها، منذ 2010، حسب التقرير، وذلك جراء انخفاض مستويات الخصوبة بشكل مستمر. بين 2019 و2050، ومن المتوقع أن ينخفض عدد السكان 1 في المائة أو أكثر في 55 دولة أو منطقة. في الصين، على سبيل المثال، يقدر أن عدد السكان سينخفض بمقدار 31.4 مليون، أو نحو 2.2 في المائة.
ويورد التقرير أن 14 دولة أو منطقة في العالم ستشهد تدفقات تصل لأكثر من مليون مهاجر بين 2010 و2020. بينما ستشهد عشرة بلدان أخرى تدفقات قريبة من هذا الرقم. بعض من أكبر تدفقات الهجرة هذه تأتي مدفوعة بالطلب على العمال المهاجرين (بنجلادش ونيبال والفلبين) أو بسبب العنف وانعدام الأمن والصراع المسلح (ميانمار وسوريا وفنزويلا).
ويقول التقرير إن بلدانا مثل بيلاروسيا وإستونيا وألمانيا وهنغاريا وإيطاليا واليابان والاتحاد الروسي وصربيا وأوكرانيا، ستتلقى تدفقا للمهاجرين على مدى العقد المقبل، ما سيساعدها على تعويض الخسائر السكانية الناجمة عن زيادة عدد الوفيات على الولادات.