قمة العشرين قمة إنقاذ الدولار
قمة العشرين هي قمة جدد فيها العالمُ البيعة للدولار الأمريكي بعد مبايعته الأولى عام 1944م في برتن وود. البيعة الأولى هي التي نصبت الدولار كعملة الاحتياط الدولية وتجديد البيعة اليوم هو إنقاذ لمكانة الدولار كعملة الاحتياط الدولية. وبخلاف الحُقب الزمنية القديمة، فالستون عاما في عصرنا المالي والعلمي الحديث تعد دهورا زمنية لما اعترى العالم فيها من التغيرات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية. وكما تباعدت دهور هذا العصر فكذلك كان البون الشاسع بين البيعتين. في البيعة الأولى أتت أمريكا بقيادة زعيمها "المظفر" روزفلت لقمة برتن وود وهي البطل المنتصر الذي حارب دون حرية أوروبا واستقلالها الصوري مضحية بنصف مليون قتيل من الأمريكيين. أتت أمريكا بالأمس القريب البعيد إلى قمة برتن وود باقتصاد عميق بكر لم تمسه الحرب، فحُق لدولارها أن يتزعم عرش العملات ليكون عملة الاحتياط المضمونة بذهب أمريكا الوفير. وأما اليوم فقد قدمت أمريكا إلى قمة العشرين باقتصاد قد عاش عالة على العالم لأكثر من أربعين سنة، قد تمادى في العقد الأخير باستغلال الدولار حتى أتى بالقشة التي قصمت ظهر البعير. جاءت أمريكا إلى لندن اليوم وهي محملة بتاريخ مالي مليء بالألاعيب المالية بدءا من نقض معاهدة قمة برتن وود إلى الضخ اللا محدود للدولار. جاءت أمريكا إلى قمة العشرين وقد نهبت العالم أمواله وسلبت حرياته. أتت وقد خفضت راية الديمقراطية ورفعت راية الاستعمار. فعلام إذن يجدد العالم البيعة للدولار الأمريكي؟
العالم لم يجدد البيعة رغبةً بل رهبة من سطوة الدولار. شدد الدولار خلال ستين عاما قبضته على التجارة الدولية وفرض الدولار نفسه ثمنا للمواد الأولية وأحكم الدولار الخناق على احتياطيات وثروات العالم، فأصبح انهيار الدولار في الوقت الحاضر انهياراً للنظام الاقتصادي العالمي و ضياعاً لثروات العالم فكان لا بد للعالم من التعامل الأمثل مع سطوة الدولار وهيمنته، هذه السطوة والهيمنة التي أفرط الرئيس الأمريكي السابق في استخدامها .
أرضت أمريكا العالم بالتسخط على الرئيس السابق الذي أحيا في نفوس العالم معنى سطوة جبروت الإمبراطورية واحتل منابع شرايين الاقتصاد و نهب أموال العالم وقدمها قربانا لرفاهية الأمريكي وثمنا لسطوة الإمبراطورية لثماني سنوات مضت.
لم تتعهد أمريكا برفع قيمة الدولار بل هندست قرارات القمة لتخفيض قيمة العملات الأخرى. تعهدت أمريكا بضخ المزيد من الدولارات وطلبت من العالم أن يحذو حذوها فيضخ من عملاته فتنخفض قيمتها فتتساوى مع قيمة الدولار وينجو الدولار من ضعف مكانته كعملة الاحتياط بسبب فقدانه المستمر قوته الشرائية وبذلك ينجوا العالم من انهيار السيد (الدولار) الذي اعتادوا على العيش من فتات طعامه. وصدق الرئيس الأسود المحنك حين قال بعد قمة العشرين "الفرص تظهر في الأزمات إذا استخدمت جيدا".
ما قيمته خمسة ملايين مليون دولار من مختلف عملات دول العشرين ستُضخ في السوق المالية العالمية على شكل تخفيضات في الضرائب وزيادة في الإنفاق الحكومي. وأضف إليها عملات الدول الأخرى التي تعهد الصندوق الدولي بتقديم عملته المحاسبية غير المتداولة (حقوق السحب الخاصة) كغطاء واحتياط نقدي لعملاتها الوطنية عند الحاجة، ويصعب تقدير حجم قيمة هذه العملات التي ستصدرها هذه الدول الفقيرة من غير أرقام ، وكما قيل أعطني رقما أخط لك كتابا.
من المتوقع أن يُنشط الإنفاق الحكومي الموعود الاقتصاد العالمي فينقلب الانكماش ازدهارا فيزداد نمو الاقتصاد العالمي بمقدار 4 في المائة إذا أحسن الحاسب حساب العامل التضاعفي.
ولكن كل هذا الضخ من الأوراق النقدية سيرفع أسعار الذهب لتعكس القيمة الحقيقية لهذه الأوراق مما سيفسد كثيرا من خطط التحفيز التي ستفقد قيمتها الشرائية في ظل توقعات التضخم الذي سيوحي به ارتفاع أسعار الذهب. ولإزالة هذا المحظور قام مهندسو القمة بتحذير مضاربي أسواق الذهب العالمية بأن صندوق النقد الدولي سيقف مستعدا لتسييل احتياطياته من الذهب لمواجهة أي ارتفاع في أسعار الذهب. هذا التحذير أتى في صورة التعهد ببيع ما قيمته ستة مليارات دولار بالسعر الرسمي ( 42 دولارا للأونصة) أي ما يقارب 142 مليون أونصة من ذهب الصندوق أي ما يقارب 110 مليارات دولار (على ما أعتقد وإن كان لم يصرح بذلك). وهذا يشكل تقريبا كل احتياطيات الصندوق الذهبية مما يؤكد عدم جدية التسييل إلا عند وجود الحاجة الحقيقية لضبط توازن سعر الذهب.
كان ذلك شأن الذهب، الثمن خلقة، والذي لا وظيفة غالبة له غير ذلك فماذا عن السلع الأخرى. السلع الأخرى تمر في حالة انكماش لأسعارها بسبب العزوف عن شرائها في الأزمة الاقتصادية الحالية مما سيخفف آثار انخفاض القيمة الشرائية للعملات. فإذا عاد النمو وارتفعت الأسعار مرة أخرى و ظهرت آثار ضخ هذه التريليونات مستقبلا فلكل حادث حينها حديث.
هدف القمة المعلن إنقاذ الاقتصاد العالمي ومن الضروريات لإنقاذ الاقتصاد العالمي إنقاذ الدولار كما أوضحت سابقا. والمتأمل لحقيقة ديناميكية تنفيذ خطط القمة يكتشف بأنها خطط قائمة على التلاعب بالأرقام من غير تمثيل حقيقي لها.
فالتريليونات الخمسة ما هي إلا أرقام في الحواسب تحفز الإنتاج في المدى الزمني القصير لتدفعه للوصول إلى إمكانية الإنتاج التي يستطيع الوصول إليها حتى إذا وصلها محققا النمو المنشود انعكست هذه الأرقام تضخما سعريا لا فائدة حقيقية منه ولكنه بعد نجاحه في إخراج الاقتصاد من دائرة الهبوط عن خط الإنتاج المقدور عليه .
وأما تريليون صندوق النقد الدولي فهو في الواقع تعهدات لا تصل حتى إلى مستوى أرقام في حواسب الكمبيوتر كالتريليونات الخمسة. صندوق النقد الدولي يقدم ضمانات بنكية لتسهيل التجارة الدولية بـ 250 مليار دولار ولا يعني هذا أن الصندوق سيدفع أيا منها بل ستدفعه الدول المستفيدة، أما الصندوق فعمله يقتصر على أن يتعهد بالكفالة في حالة عجز الدولة عن السداد. وأما 250 مليار دولار التي سيصدرها الصندوق الدولي على شكل حقوق سحب خاصة (عملة الصندوق وهي محاسبية لا وجود لها تداولا) فهو رمز فقط من أجل تعزيز دور صندوق النقد الدولي الغابر كمزود للسيولة في العالم ولا يعني أن الصندوق سيصرف هذه الأموال. وأقرب مثال لتوضيح هذا المفهوم تعهد السعودية بمليار دولار لتعزيز الاحتياطيات النقدية الأجنبية لدولة لبنان زمن حرب إسرائيل ولا يلزم من ذلك أن لبنان استخدمها بل هو مجرد بث الثقة بالليرة اللبنانية لكي لا يجتمع الناس على بيعها فتنهار. والتعهد ببيع ذهب الصندوق لا يعني بيعه حقيقة كما أوضحت سابقا.
تعهدات الدول بالمساهمة في صندوق النقد الدولي لا تكون بتقديم مئات المليارات، فقل لي بربك من سيدفع تريليون دولار أو جزءاً منه لمنظمة لا تملك إنتاجا ولا سلاحا. وإنما تكون مساهمة الدول في الصندوق الدولي استثمارية كشراء سندات الصندوق أوقد تكون مساهمة بحصتها عند الحاجة في تغطية عجز حدث عند دولة هنا أوهناك ضمن المتفق عليه. ومثال ذلك لو احتاج الصندوق إلى 100 مليون لتغطية عجز عن سداد ضمان بنكي قُدم لإحدى الدول فسيكون نصيب المملكة منه 3.21 مليون ويصبح دينا على الدولة التي عجزت عن السداد أو أن يكون هناك موديل آخر يتفق عليه. وهناك الحصص المتفق عليها من قبل كسبعة مليارات من حقوق السحب الخاصة هي نصيب السعودية في الصندوق الدولي مما يعطيها 70000 نقطة، حيث إن كل نقطة تحصل عليها الدولة مقابل المساهمة بـ 100 ألف حق سحب خاص والذي يساوي دولاراً ونصف الدولار تقريبا أي أن السعودية مساهمة بما يقارب عشرة مليارات دولار. وعلى قدر المساهمة تحصل الدولة على قدرها في التصويت فصوت السعودية يساوي 3.21 في المائة من الأصوات وصوت أمريكا يقدر بـ 7 .16 في المائة من الأصوات لمساهمتها بما يساوي 55 مليار دولار مما أعطاها حق النقض (الفيتو) الذي يُعطى لمن حصته أكبر من 14 في المائة ولا تتمتع به إلا أمريكا التي مارست بهذا الحق كثيرا من الضغوط على دول آسيا، ومواقفها خلال أزمة نمور آسيا عام 1997 لم تزل ماثلة للذكرى والاعتبار لم يمحها النسيان.
وأخيرا فقد أضافت القمة إلى قراراتها نكهة الاعتذار والأسف لمن نُهبت أموالهم في أسواق الغرب وذلك بأن قررت القمة إقامة مجلس لتحقيق الاستقرار المالي لمراقبة المغامرات المالية وإصدار القرارات الخاصة بذلك، هذا المجلس وقراراته لن يلبث إلا ويلحق بقرارات الوحدة العربية والإسلامية.
كانت هذه الخطوط العريضة لما ظهر من نتائج القمة وما بطن منها. فأما ما ظهر فقد أعلنت عنه قرارات القمة وأما ما بطن فهو اجتهاد تحليلي مني يصيب و يخطئ. ووجه احتمالية إصابته هو المقابلة المنطقية بين الأرقام والحقائق والنظريات الاقتصادية ووجه احتمالية خطئه هو افتراض وجود المنطق عند المجتمعين في قمة العشرين والذي لا يلزم وجوده. وأمر آخر يجر إلى الخطأ وهو تأثير العامل التاريخي في طريقة التفكير، والتاريخ قد أصبح متغيرا إلى حد أفقده قوته التنبُّئِية القديمة.