عدوى الابتكار
اكتشافات عظيمة ونشأة شركات كبرى، أو تحولات جذرية في مستوى الاقتصاد والتنمية تكمن غالبا خلف فكرة. تلك الفكرة كانت بمنزلة وميض ملهم لتبدأ بعدها رحلة طويلة من المثابرة والجد والإبداع. لكن كيف لنا أن نحصل على تلك الفكرة الاستثنائية التي قد تصنع هذا الأثر الهائل أو لحظة اليوريكا Eureka السعيدة؟.
يطرح المؤلف ستيفين جونسون في كتابه "من أين تأتي الأفكار الجيدة؟" عدة نقاط تجيب على هذا السؤال. حيث حدد المؤلف سبعة أنماط أو عوامل تساعد على توليد الأفكار الإبداعية وتؤدي بدورها للابتكار، وسأكتفي بذكر اثنين منها هنا. أولى هذه الأنماط هو ما أطلق عليه المؤلف الإمكانات المتجاورة، ويقصد بذلك الظروف المحيطة والبيئة المجاورة التي مكنت من حدوث اكتشافات أو ابتكارات لم تكن لتحصل في وقت مضى، في ظل غياب بعض تلك الظروف والممكنات. مثلا إمكانية تطوير منصة للتجارة الإلكترونية لم تكن متاحة قبل نصف قرن في غياب تقنية الإنترنت، وبالتالي يصعب حتى مجرد تخمين تلك الفكرة بسبب عدم جاهزية البيئة المحيطة.
النمط الآخر: يصفه المؤلف بالشبكات السائلة أو المندمجة liquid networks، ويقصد به التقاء مجموعة من الناس من مشارب مختلفة وخلفيات علمية متعددة يعملون لأجل هدف مشترك. فعديد من الاكتشافات العلمية كانت بسبب النقاشات داخل الأندية أو الملتقيات المعرفية، وعادة ما يثريها الحضور بوجهات نظرهم المختلفة، لكن لم تكن حصرا داخل معامل ومختبرات الباحثين. وقد ذكرت في مقال سابق أهمية حضور المؤتمرات العلمية والالتقاء بالعلماء على هامش المؤتمر لطرح الأفكار وإثراء النقاش وتأتي منسجمة مع هذا النمط لتوليد الأفكار الأصيلة والخلاقة.
وبالنظر إلى النمطين السابقين، فالأول يتناول عنصري البيئة والثقافة من جهة، والآخر يسلط الضوء على أهمية شبكة العلاقات في توليد الأفكار المبتكرة. وكل تلك العناصر السابقة تتضمن تفاعلا مع الأشخاص أو البيئة المحيطة، وتتأثر بهما بشكل كبير. كما أن جودة البيئة والثقافة والمستوى المعرفي والعملي للأشخاص المحيطين يسهم في جودة الأفكار المولدة أو رداءتها. فعدوى الإبداع والابتكار تنتشر بحسب ملاءمة البيئة الحاضنة أو المحيطة وجودة العقول المفكرة ووفرتها.
ومما يؤكد الاستنتاج السابق دراسة أجراها جونسون على توليد الأفكار الإبداعية المولدة في القرنين الـ 18 والـ 19 الميلادي والعوامل المؤثرة فيها. كانت النتيجة التي أسماها بـ "الربع الرابع" مثيرة للاهتمام، حيث وجد أن عدد الأفكار التي ولدت في ظل وجود تواصل مع الآخرين تفوق بمراحل عدد الأفكار المبتكرة من قبل الأشخاص المنعزلين.
ومن الشواهد الحديثة على عدوى الابتكار والإبداع، ما تقوم به حاضنات أو مسرعات الأعمال ذائعة الصيت من دور حيوي في نجاح الشركات الناشئة، وتكرار قصص النجاح لمثيلاتها من الشركات المنضمة حديثا لبرامجها. فعلى سبيل المثال، مسرعة الأعمال الأمريكية Y Combinator لا يتجاوز معدل إخفاق الشركات الناشئة المحتضنة لديها 20 في المائة، وتعد نسبة منخفضة مقارنة بأداء مثيلاتها من المسرعات.
ختاما، كما نتأثر بالدائرة المحيطة بنا من الأصدقاء أو المعارف سلبا أو إيجابا، فكذلك الحركة المعرفية والثقافية أو الإبداعية تتأثر بالبيئة المحيطة بها، وأهم مكوناتها وهو العنصر البشري.