بوصلة الغذاء تتجه للبحر
الغذاء هو وقود الحياة ويشمل المأكولات والمشروبات وهو مطلب ملح وأساسي لبقاء كل كائن حي يدب على وجه الأرض برها وبحرها وهواءها، يقول الله تعالى: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" "هود: 6" ويشارك الإنسان في هذه الأرض بحثا عن الغذاء عوالم كثيرة تفوق عدد البشر كثرة وشراهة وحاجة إلى الغداء، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بنص هذه الآية برزقها إلى أن يشاء الله لها الفناء أو الانقراض، للبشر غير المسلمين مقاييس مادية جديرة بالعناية من قبل المسلمين ولا يمنع الإسلام من الأخذ بالأسباب، بل أمر الله سبحانه وتعالى بالأخذ بها تجاه الرزق ووجود الغذاء لكل الأحياء. نحن البشر لا يسعنا الإحاطة التامة بمصير هذه الكائنات في الأغلب الأعم تجاه غذائها، بل يتولى ذلك خالقها سبحانه وتعالى: "وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين" "الحجر: 20"، وأصبح التركيز على الغذاء للبشر ومستقبلهم. كثير من خبراء الغذاء في العالم لديهم شبه إجماع على النظرة التشاؤمية تجاه مستقبل الغذاء في القرون المقبلة إن لم تكن الأعوام المقبلة بالنظر للازدياد في عدد السكان ومحدودية المصادر الطبيعية الحالية للغذاء واحتياجاتها للمياه سوى للشرب، أو إنتاج الغذاء باعتبار الماء عنصر الحياة، قال تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" "الأنبياء: 30"، فمنهم من بلغ به التشاؤم حدا يقول فيه إذا كان البشر يزدادون على هيئة متوالية عددية 1،2،3،4،5 وهكذا، فإن حاجتهم إلى الغذاء تزداد على هيئة متوالية هندسية 1,2,4,8,16 وهكذا بنظرة يائسة لا أمل فيها، وأن كل الكائنات الحية آيلة للفناء لا محالة، وهذه النظرة ركز فيها أصحابها على استهلاك البشر هذه الموارد والغفلة عن دور هؤلاء البشر في تطوير هذه الموارد والعناية بها وإنتاجيتهم للغذاء والحرص على استدامتها ومن هؤلاء الخبراء من يشارك بالهموم والتخوف ذاتهما لكن بطريقة إيجابية، حيث يقدر حجم مشكلة تزايد الطلب على الغذاء المتوقع، لكنه يعول على حلول تجاه هذه المشكلة من خلال اتجاهات ثلاثة: المحافظة على هذه الموارد، وتطويرها، وترشيد استخدام الموارد البيئية التي تشمل الماء والهواء والكائنات الحية النباتية والحيوانية بعدم الإسراف في استخدامها ودرء مصادر التلوث عنها، ففي ذلك حفظ لها والحد من تدهورها وبقائها بحالة منتجة وصالحة للاستهلاك وتطوير هذه المصادر بتسخير التقنيات الحديثة لرفع كفاءة الإنتاج بها.
التوسع مثلا في تحلية مياه البحر للشرب والزراعة يقلل هدر الموارد المائية المتاحة من الأنهار والبحيرات العذبة، وكذلك التوسع الرأسي بإنتاج الخضراوات في البيوت المحمية يرفع كفاءة إنتاج وحدة المساحة فيها، فمثلا الأرض المخصصة لنفق بلاستيكي تقليدي لإنتاج الطماطم أطوالها في العادة "٩*٣٢ مترا" إنتاجية هذه المساحة منه من الطماطم لا تتجاوز 300 كيلوجرام، بينما زراعته بتقنية البيوت المحمية يرفع إنتاجها إلى 12 ألف كيلوجرام في العام، ما يزيد كفاءة إنتاج الأرض إلى 40 ضعفا، كذلك يمكن القول: إن تربية الدواجن في حظائر تصل طاقتها من 40 إلى 50 ألف طائر في الدورة الواحدة خلال 28 يوما مقارنة بإنتاجية الدواجن في الحقول المفتوحة التي لها مقارنة بكمياتها ولا مدة تربيتها مع الحظائر المكيفة، كذلك الأمر ينطبق على الألبان، حيث تصل الإنتاجية للبقرة المحسنة وراثيا من الحليب متوسط 45 لترا في اليوم، بينما الأبقار العادية في الحقول لا تتجاوز سبعة لترات في اليوم مثل هذا ينطبق على الحبوب والفواكه والعسل وإنتاج الأسماك المستزرعة سواء البحرية أو في المياه العذبة فتطوير هذه المصادر البيئة الحية سواء بتحسين سلالاتها وراثيا لمزيد من الإنتاج وازدياد العناصر الغذائية فيها وتحصين الحيوانات والنباتات في بالتطعيم، ودرء الآفات عنها وتوفير مناخ أفضل لإنتاجيتها، وكذلك تقليل هدر هذه الموارد وذلك بالري بالتنقيط للمياه لأغراض الزراعة بدل الزراعة، بالغمر واختيار أصناف ذات احتياجات مائية قليلة ومقننة، وكذلك وسائل إعادة تدوير المياه واستخدامها عدة مرات وفي ذلك توفير مصادر المياه العذبة، كما أن الزراعة دون تربة بأنظمة الهيدروبونيك، حيث يتم توفير العناصر الغذائية المطلوبة للنبات في وسط مائي بدلا من أخذها من التربة، يتيح الفرصة لإنتاج زراعي مكثف في المناطق ذات التربة غير الصالحة للزراعة، ويوفر الضغوط البيئية على استهلاك مصدر التربة، من هنا نجد التقنية والبحث العلمي قد أسهما ولا يزالان في تطوير مصادر الغذاء ومواردها ويحسنان جودتها ويعول عليهما كثيرا بعد توفيق الله سبحانه وتعالى للوفاء باحتياجات البشرية الحالية والمستقبلية، حيث إن هذه الأبحاث لم ولن تقف عند حد، فإن العقود الماضية كانت تسمى الطفرة الزراعية بكل هذه المخترعات فيها بالثورة الخضراء ويتجه العالم حاليا إلى البحار فيما اتفق على تسميته بالثورة الزرقاء، حيث تشغل البحار ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وينظر إليها علماء الزراعة والصناعات الغذائية على أنها هي المستقبل الحقيقي للإمدادات الغذائية ومياه الشرب، بل صناعات عديدة تتجاوز الغذاء ومشتقاته، فاليابسة في الكرة الأرضية تشكل الربع بكل مصادرها الطبيعية من المياه والتربة والكائنات الحية، وقد لا تكون مستدامة المصادر دون الحاجة إلى تطويع البحار والمحيطات للإسهام في إنتاج الغذاء، إذا نظرنا إلى الإنتاج العالمي الطبيعي من الأسماك مثلا نجد أنه قد وصل حده وذروته في العالم بنحو 80 مليون طن سنويا، بل إنه يتناقص سنويا بمقدار 2 في المائة بينما يستهلك العالم 150 مليون طن سنويا ويزداد بمعدل 12 في المائة، تسهم المزارع السمكية بما يقرب من النصف منها حاليا، أي 46.6 في المائة وتحقق نموا سنويا يصل إلى 13 في المائة، فمثلا إنتاج العالم من السلمون المستزرع يمثل 99 في المائة من السلمون المتداول في الأسواق العالمية حاليا، وتقدر منظمة الأغذية والزراعة الفاو أنه إذا بقي الصيد الطبيعي على وضعه الحالي دون خفض للكميات المصطادة والتوقف عن استنزاف المصادر السمكية الطبيعية، فإن الإنتاج العالمي الطبيعي من الأسماك سيقترب من الصفر عام 2052.
لا تقتصر الثورة الزرقاء على استزراع الأسماك والروبيان أو المنتجات البحرية التقليدية في البحر كالمحار والكافيار، بل يتم حاليا استزراع الأعشاب والطحالب والنباتات البحرية، وباعتبار البحار تحتوي على ثروات بحرية حية نباتية وحيوانية قابلة لإنتاج الغذاء المباشر وغير المباشر للبشر مثل إنتاج الأعلاف الحيوانية والمكملات الغذائية والدوائية، بل حتى إنتاج الوقود الحيوي من المنتجات البحرية الحية مع الاستمرار أيضا في تطوير تدجين الأحياء البحرية الحيوانية والنباتية وتسخيرها لمتطلبات البشر الغذائية والدوائية، وهو الأمر الذي يوجب ضرورة العناية بالبحار والأنهار والبحيرات وحمايتها من التلوث وعدم الإخلال بالتوازن والنظام البيئي المحكم، الذي يكفل لهذه الأحياء الاستمرار والدوام بتدبير الخالق سبحانه وتعالى.