كيف يفلح قوم خلطوا البيع بالقرض؟

كنت أعتقد أن اللبس والخلط بين القرض والبيع والتمويل حجرٌ على عامة الناس. وكان فيما اعتقدته أن استخدام لفظ القرض محل لفظ البيع أو التمويل هو من باب الكلمات التي غلبت ترجمتها الحرفية من اللغات الأجنبية عن معناها في لغتنا الشرعية الإسلامية. والذي لم أدركه إلا حديثا أن هذا الخلط واللبس بين القرض والبيع أو التمويل قد تجاوز عامة الناس إلى كثير من كبار طلبة العلم الشرعي فضلا عن معظم الباحثين في الصيرفة الإسلامية.
يطلق على تمويلات البنوك عموما القروض بل وأَصل بعض الباحثين في الصيرفة الإسلامية ودائع البنوك بأنها قروض وكذا كل ضمان لرأس المال ألحق بالقروض. وهذا خطأ شنيع في تأصيله الفقهي وفي لوازمه اللازمة عنه.
لم يقل أحد من السلف على الإطلاق ولا من الخلف عند تأصيل مفهوم القرض بأنه عقد معاوضة محضة يداخلها زيادة وأجل، لأن لازم ذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وحاشاه عليه السلام، قد وقع في الربا عندما جهز جيشه بأن عاوض البعير حالا بالبعيرين والثلاثة مؤجلة.
لذا فالأمة قد دارت حول الرفق والإحسان والرحمة في تأصيل معنى عقد القرض. فقالت إن القرض من عقود التبرعات (وهو المشهور) أو إنه تبرع في الابتداء ومعاوضة في الانتهاء (كالأحناف) وثالث الأقوال أنه عقد معاوضة غير محضة (كالمالكية والشافعية). وخرجت المالكية ذلك بأن التبرع المحض هو كالهبة والصدقة التي لا يرجى ردها، وأما المعاوضة المحضة فهي كالبيع، وأما القرض فهو معاوضة قامت على الإحسان والشفقة فتأصيل القرض بأنه عقد معاوضة غير محضة يأتي من حيث أنه فيه تبرع وفيه معاوضة. لذا فالوكيل والوصي على المال لا يجوز له إقراض المال الموكل عليه دون الرجوع إلى المالك الأصلي لأن القرض من عقود التبرعات، بينما يجوز للوصي والوكيل أن يبيع هذا المال نفسه لتنميته دون الرجوع للمالك الأصلي لأن البيع من باب المعاوضة المحضة.
وليس الإسلام وحده فقط من قرر ذلك بل قد أجمعت الملل والمذاهب الإنسانية جمعاء بأن القرض عقد رحمة وشفقة وإحسان وزادت ملتنا على ذلك بالمثوبة والأجر الموعود للمقرض. وشاهده عموم قوله تعالى "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، وكذا قوله عليه السلام "من منح منيحة لبن أو وٍَرق أو هدى زقاقا كان له مثل عتق رقبة" فالقرض يقع إذن في اللبن كما يقع في الفضة وفي منفعة الطريق أي أن كل ما جاز بيعه جاز قرضه والفرق الفاصل بين العقدين هو نية المتعاقدين عند إبرام العقد، هل هو عقد يطلب الفقير فيه الرحمة والإحسان من الغني أم أنه عقد تجاري يتسوق فيه المتمول بين الممولين باحثا عن أفضل صفقة.
فعندما تتمول كبار الشركات من البنوك أيُعد هذا عقد قرض من باب التبرعات أم عقد بيع من باب المعاوضات المحضة؟ وعندما يودع زيدٌ المسكين وديعة في البنك بعائد ثابت أو متغير أو يستثمر في استثمار ضامن لرأس المال، أيُعد زيدا المسكين مقرضا للبنك! فصل الشيخ الزكي الذكي ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ، بوضوح ومن غير لبس، الفاصل بين القرض والبيع فقال ـ رحمه الله ـ في أول شرح كتاب البيع:"إذا قال قائل: ما الذي أخرج القرض عن البيع، وهو مبادلة مال بمال؟
قلنا: أخرجه قول النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، فما الذي نواه المقرض، هل نوى المعاوضة والاتجار أو نوى الإرفاق؟ الجواب:الثاني، فهو نوى الإرفاق، ومن أجل أنه نوى الإحسان صار مقابلاً لنية المرابي؛ لأن الأصل في الربا هو الظلم كما قال تعالى: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}، فصار القرض على نقيض مقصود الربا، إذ إن المقصود منه الإرفاق، فلذلك خرج عن كونه بيعاً.
إذاً ما الدليل على خروج القرض من البيع؟
الجواب: قول النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، وذلك أن المقرض والمستقرض لم ينو أحد منهما المعاوضة، إنما قصد المقرض الإرفاق وقصد المستقرض سد حاجته، ولهذا صار القرض ليس بيعاً، وقد سبق أننا لو جعلنا القرض بيعاً لبطل القرض في جميع الربويات بجنسها." انتهى كلامه ـ رحمه الله ـ.
صورة القرض في الواقع هي صورة ربا، فالقرض ربا إلا أن الله أجازه من باب الإحسان كما نص على ذلك علماء الأمة. وهذا ما قصده الشيخ ـ رحمه الله ـ بقوله "لو جعلنا القرض بيعاً لبطل القرض في جميع الربويات بجنسها" ومثاله لو بعتك دينار ذهب تعيده دينار ذهب مثله تماما ولكن لا أقبضه منك إلا بعد يومين فهو ربا وأعظم الربا، ربا النسيئة. ولكني لو أقرضتك دينار ذهب تعيده دينار ذهب مثله تماما أقبضه منك بعد يومين فجائز.إذن ما هو الفرق؟ الفرق هو ما قاله الشيخ وهو النية هل هي نية إحسان أم نية معاوضة. وعلى هذا يتبين خطر وعظم ذنب التحايل على محرمات الله بعقود صورية، ولكل امرئ ما نوى.
ولنقف وقفة باحث عن حق ولنتأمل، هل شراء مؤسسة النقد للسندات الأمريكية، مثلا، عقد قرض فيه نية الرحمة والإشفاق والإحسان فتجري عليه أحكام القروض أم عقد بيع نيته التجارة والمعاوضة المحضة وتجري فيه أحكام البيوع؟ لا أعتقد أن هناك عاقلا يقول إنه قرض ويقصد به المعنى الشرعي للقرض، إذن فهو عند التأصيل الشرعي عقد بيع بلا خلاف وإذا أردنا تحديده بدقة خرجناه على الإجارة، فالإجارة بيع منفعة.
فما بال بعضهم يقذف مؤسسة النقد ليل نهار بالربا؟ قالوا نحن نسميه قرضا إما جهلا وإما تجوزا ولكن أصل المسألة أن السندات أوراق مالية تمثل الأوراق النقدية والأوراق النقدية تقاس على الذهب والفضة وبيع الذهب أو الفضة بذهب أو فضة بالآجل هو بيع ربوي وحرب لله ورسوله وكذا الفوائد هي من ربا الفضل. فنقول فأما بيع الذهب أو الفضة بمثلهما ولو من غير زيادة هو ربا النسيئة المجمع على تحريمه وهو من حرب الله ورسوله ولكن جوهر المسألة هنا هو قياس الأوراق النقدية على الذهب والفضة من أين لكم به؟ هل قال به أحد من السلف أو هل أجمعت عليه الأمة؟ بل أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول هل اتفق عليه ولو ثلاثة من علماء الأمة المعاصرين المشهود لهم بالإمامة والورع ومن الذين وضع الله لهم القبول في الأرض؟
قد بينت في مواضع أخرى أنه باستقراء كلام السلف فإنه لا يوجد من قال بقياس الأوراق النقدية بتكييفها الحالي على الذهب والفضة وهو إضافة إلى ذلك مخالف للشروط المتفق عليها في استنباط العلة ومخالف لكثير من قواعد أصول الفقه. لذا فإننا إذا نظرنا إلى أهل العلم المعاصرين، كيفا لا كما، فإن جمهور علماء الديار السعودية الربانيين لم يقولوا بهذا القياس بل قد رد هذا القياس ورفضه الشيخ ابن سعدي وتلميذه الشيخ ابن عثيمين ـ رحمهما الله ـ وتوقف عن القول به الشيخ عبد الله بن حميد والشيخ الأمين الشينقيطي والشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ صالح اللحيدان والشيخ عبد الله بن غديان وقال به احتياطا الشيخ محمد بن إبراهيم (قوله هي نقد نسبي والاحتياط فيها أولى). وأما إن وسعنا الدائرة لنشمل علماء الأمة الإسلامية فسندخل صفوة علماء الأزهر وعلماء بلاد الشام في دائرة عدم قياس الأوراق النقدية على الذهب والفضة. أفلا يسع هؤلاء، الذين يخلطون القرض بالبيع والتمويل فيصفون السندات وتمويلات وودائع البنوك وصناديقها الضامنة لرأس المال بأنها قروض لمجرد الزيادة مع الأجل، ما وسع رسول الله بأخذه البعير حالا بالبعيرين والثلاثة آجلا!.
ألا يسع هؤلاء الذين يصرون على قياس الأوراق النقدية على الذهب والفضة والذين أدركوا الفرق بين البيع و القرض فأجروا ربا البيوع على كل ما سبق وفسقوا المخالف ما وسع صفوة علماء الديار السعودية ومصر وبلاد الشام! ألا يسع هؤلاء وهؤلاء ما وسع رسول الله والسلف وصفوة علماء الأمة المعاصرين! ألا يسعهم ما وسعهم! ألا يسعهم ما وسعهم!
إذا فُهمت هذه الأصول وعدنا إلى تأصيل المعاملات تأصيلا شرعيا صحيحا سنستطيع استعادة الرؤيا الشرعية للتمويلات وللودائع وللصناديق الاستثمارية الضامنة لرأس المال لا مجرد إطلاق مفهوم القرض تعسفا على كل مبادلة تتم داخل البنوك اعتمادا على إطلاق مفهوم القرض أو صورة من صور القرض على كل زيادة في المقدار أو الأجل مع الضمان.
ولا يلتبس الدَين مع القرض على القارئ الكريم. فالكلمتان ينوب بعضها عن بعض عند التفرق وتختلف مفاهيمهما عند الاجتماع، فهي إذا افترقتا اجتمعتا وإذا اجتمعتا تفرقتا. وشاهد الإنابة في المعنى قوله تعالى: "يا أيها الذين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" فالدين هنا بمعنى القرض أو بيع السلم أو بيع الآجل. ولكن عند تأصيل مفهوم الدين ليتميز عن القرض والبيع فالدين هو بيع الكالئ أو ما لا يملكه البائع. ومن هنا خرج بعض العلماء الربانيين الأوائل الأوراق النقدية على أنها سندات دين على الدولة، وذلك أن الدولة تبيع الأوراق النقدية مقابل عوض غير موصوف في ذمة الدولة من غير تحديد لأجل. وانظر يا ـ رعاك الله ـ إلى دقيق فقههم في ذلك الوقت المتقدم الذي لم تكن ديناميكية عمل البنك المركزي وعلاقته مع الدولة والبنوك ظاهرة. فالبنك المركزي لا الدولة هو من ينتج الأوراق النقدية كسلع يقدمها للبنوك من غير معاوضة محضة على سلع أو منفعة ، والبنوك تقدم هذه الأوراق للناس لتسهيل معاشهم والدولة من الناس.
الخلط بين القرض والبيع كان بعض ما أدخل اللبس في المفهوم الشرعي لكثير من العمليات الاقتصادية في المجتمع الاقتصادي الإسلامي فحُرم الحلال وحُلل الحرام وأُتي بالمتناقضات وأُضحك الأعداء وأُبكي الأصدقاء ووقفت الأمة حيرى تبحث عن مقاصد الشريعة وتتساءل عن حكم التشريع وتتلمس مصداقية الأخبار التي أصبحت كأحاديث الإسرائيليات. وصدق الله "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" والحمد الله رب العالمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي