1139هـ .. تأسيس الدولة السعودية الأولى وإعادة المكانة لشبه الجزيرة العربية
أربعة عقود من المنعة والقوة والحكمة نقل خلالها الإمام محمد بن سعود الدرعية وإرث أجداده من التشتت والتناحر والنزاع القبلي إلى مفاهيم غير مسبوقة للدولة الحديثة، وقد حدثت في عهده تطورات وأحداث فارقة، أعلى بها راية الدرعية خفاقة، وأرسى بها البذرة الأولى للدولة بمفهومها الحديث، ليؤسس ميادين الوحدة للأجيال التي تلته، وتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ شبه الجزيرة العربية بأسرها.
في هذا التقرير يستعرض الدكتور عبد الرحمن بن سعد العرابي - أستاذ قسم التاريخ في جامعة الملك عبد العزيز، بعضا من اللمحات التاريخية لتأسيس الدولة السعودية الأولى، ودور الإمام محمد بن سعود في ذلك.
تاريخ الدرعية
الدرعية حين تولى الإمام محمد بن سعود حكمها لم تكن مثل بقية بلدات إقليم اليمامة ونجد عامة مثل العيينة، وحريملاء، والرياض، حيث كانت تطبق نظام دولة المدينة، ما جعلها مميزة عن غيرها من المدن والبلدات وقد توارث الحكم فيها زعامة عربية تنتمي إلى قبائل عربية خالصة، وهم بنو حنيفة التي تنتسب لها أسرة آل سعود.
الإمام محمد بن سعود
سبق أن عايش الإمام محمد بن سعود في الدرعية حكم والده الأمير سعود بن محمد بن مقرن الذي امتد نحو خمسة أعوام ما بين أعوام "1132- 1137 / 1720 - 1725"، شهدت فيه إمارة الدرعية تطورات كبيرة ونفوذا أكبر، ومن ذلك استقلال آل مقرن بحكم الدرعية بعد أن كانوا يتناوبونها مع أبناء عمومتهم آل وطبان، وبذلك بدأ نفوذ آل مقرن يتعاظم في وسط شبه جزيرة العرب. كما يبرز من الأحداث أيضا تصدي الدرعية لحركة قادها بنو خالد المتنفذون في شبه الجزيرة العربية لغزو بلدات منطقة العارض ومنها العيينة في أعوام "1133هـ و1135هـ".
تولى الإمام محمد حكم الدرعية وهو في سن الـ49 عاما وهو أكبر أبناء الأمير سعود بن محمد بن مقرن الذكور، وهم أربعة محمد وثنيان ومشاري وفرحان.
وسبق للأمير محمد أن تولى عدة مهام خلال فترة حكم أبيه للدرعية، فيما كان يعرف بين أسر حكام نجد تأهيل أبنائهم للحكم وانتقاله لهم بسلاسة ودون صعوبات.
وقد أوردت المصادر التاريخية لتلك الفترة مشاركة الأمير محمد في مهام والده السياسية والحربية، ما أكسبه قدرة وكفاءة إدارية وسياسية، كما أكسبته تلك المشاركات احترام وتقدير أهالي الدرعية.
ولعل في الحوادث التي تلت وفاة الأمير سعود بن محمد بن مقرن ووقوف الأمير محمد بن سعود إلى جانب أمير الدرعية زيد بن مرخان ضد ابن عمه في بداية عام "1139هـ/ 1726" خير مثال على وفاء الأمير محمد وعدم قبوله بالضيم وسلب الحقوق، وهو ما جعل أهالي ووجهاء وأعيان الدرعية يختارونه لحكمها.
لم تكن الحالة السياسية لمنطقة نجد عند تولي الإمام محمد بن سعود حكم الدرعية تختلف كثيرا عما كان سائدا في المجتمعات العربية التقليدية من مؤهلات الزعامة والرئاسة التي من أهمها أصالة النسب والشجاعة والكرم.
وقد انعكست تلك الحالة على علاقة القبائل النجدية بعضها بعضا في عام 1139هـ/ 1727 تولى الإمام محمد بن سعود حكم إمارة الدرعية وبدأ ما عرف في التاريخ بتأسيس الدولة السعودية الأولى.
المدينة بمفهوم الدولة
كانت الدرعية حينها حاضرة من حواضر إقليم اليمامة وطبيعة حكمها عرفا كان سائدا في الإقليم فيما يسمى المدينة - الدولة أو الإمارة - الدولة وهو نوع من الحكم ساد في مناطق عدة من العالم وعبر أزمنة تاريخية مختلفة.
منذ عرفته أوروبا في المدن -الدولة الإيطالية قبل توحيدها في القرن الـ19 مثل البندقية، وجنوا، ولهما نفوذ كبير في حوض البحر الأبيض المتوسط، وتسيطران على موانئ كبرى فيه كما كانت ذات نفوذ في نقل تجارة الشرق المارة عبر الموانئ المصرية إلى أوروبا إبان العصور الوسطى وبدايات التاريخ الحديث منذ نهاية القرن الـ15 الميلادي بعد اكتشاف البرتغاليين والإسبان لطرق تجارية جديدة غير الطرق التقليدية التي كانت تسيطر عليها ممالك إسلامية وتجار مسلمون.
كما عرفت الحضارة الإغريقية القديمة ذلك النوع من الحكم "المدينة - الدولة" في كثير من مدنها الكبرى مثل أثينا وإسبرطة، وكورنث، وسرقوسة، وأرجوس وكان لكل واحدة منهن نفوذ سیاسي وحضاري كبير ما زال حتى يومنا هذا ذا حضور في الثقافة الأوروبية.
وقفات تاريخية
كان حكم الدرعية حين تولى الإمام محمد بن سعود لها حكما وراثيا في أسرة آل سعود منذ تأسيسها على يد جدهم الأكبر مانع المريدي في عام "850هـ/ 1446"، وهو أي مانع، الجد السابع للإمام محمد بن سعود.
في ذلك العام قدم مانع من بلدته الدرعية في شرق شبه الجزيرة العربية بعد أن راسله ابن عمه ابن درع وهو صاحب نفوذ في إقليم اليمامة فاستوطن مانع وأسرته موضعين ويضمان "المليبيد وغصيبة" وهو المكان الذي أصبح يسمى بعد ذلك الدرعية نسبة للبلدة القديمة التي كان يسكنها مانع وأسرته في شرق شبه الجزيرة العربية.
امتد حكم الإمام محمد بن سعود نحو 40 عاما منذ توليه حكم إمارة الدرعية عام "1139هـ/ 1727م" حتى وفاته عام "1179هـ/ 1765م"، شهدت فيه الدرعية تطورات وأحداثا مفصلية نقلتها من صيغة المدينة - الدولة إلى الدولة صاحبة النفوذ الأكبر في كامل شبه الجزيرة العربية.
سعى الإمام محمد بن سعود في بداية حكمه إلى تجاوز محنة الخلاف الداخلي لتوطيد الاستقرار داخل الدرعية ولإعادة اللحمة داخل مجتمع الدرعية وكان ذلك نابعا مما حباه الله من حسن سيرة ومعاملة ووفاء وسداد رأي وحسن التدبير.
كما سعى الإمام محمد إلى استثمار ما بدأه والده الأمير سعود بن محمد من رعاية علمية وترسيخ لمكانة الدرعية بين البلدات النجدية الأخرى، خاصة المجاورة لها مثل حريملاء والرياض والعيينة.
دولة عربية خالصة
حين بدأ الإمام محمد بن سعود مشروعه التأسيسي أراد إقامة دولة عربية خالصة أساسها الإسلام المعتدل، تعيد المكانة لشبه الجزيرة العربية موطن العرب ومهد الإسلام بعيدا عن الولاءات والتبعية لنفوذ العناصر غير العربية، خاصة أن الدولة الأكبر آنذاك والمسيطرة على معظم الأقاليم والدول العربية كانت الدولة العثمانية التركية الخالصة في توجهاتها وسياساتها وطبيعة حكمها، فكل سلاطينها وحكام ولاياتها من العنصر التركي، وقد أبعدت أبناء العرب عن مركز القوى والسلطة حتى من الحكم في أقاليمهم ومناطقهم.
ولقد كان لتلك الدولة اليد الطولى في الهيمنة على حكام شبه الجزيرة العربية وإدارة شؤونها، في الوقت الذي كانت هي ذاتها تعيش أسوأ مراحل حياتها في القرن "12ھـ/ 18م" نظر الانتشار الفساد في كل مفاصلها السياسية والإدارية.