إبداعية أم اعتزال فقهي جديد ؟!
Creativity ، التي تترجم ترجمة غير دقيقة إلى العربية بالإبداعية، فيها عند التضييق للمعنى، معنى الخلق والإيجاد. فالخلق إيجاد من العدم وذلك خاص به جل شأنه ذي الجبروت، "ألا له الخلق والأمر". فإبداعية المخلوق إذن هي إيجاد شيء مستحدث من تجميع مُحكم لأشياء هي موجودة أصلا.
والإبداعية بهذا المفهوم ليست من أدوات التعامل مع دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل إن الله قد تحداها في كتابه العزيز وتعهد بإظهار تناقضها واضطرابها وشاهده "لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا". وعلى كل حال فالإبداعية في الواقع هي حاصل اجتماع أمور ثلاثة تحت شرط واحد. فهي عقل يفكر بالمنطق وذكاء يفهم نتائج تسلسل هذا المنطق وإمكانية تُمكن المبدع من الظهور بإبداعه، فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة وكانت اللامحدودية محيطها توافر شرطها فأنتجت نتاجها من ابتكارات جديدة قد تكون ضارة وقد تكون نافعة.
والدين محدود مرتين، مرة في أصله ومرة في فهمه. فهو محدود في أصله بكتاب وسنة ومحدود في فهمه ضمن حدود أصول ثلاثة عظيمة هي أصل النية وأصل المنع في العبادات وأصل الحل في المعاملات.
وكل شيء يدخل تحت أصل العبادة أو أصل المعاملة فالأكل في نهار رمضان يدخل تحت أصل العبادة. وفي غير نهار رمضان، فالأكل يدخل تحت باب المعاملات وكذا البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة والبيع في غير ذلك الوقت وعلى هذا فقس. إذن فالعمل إما عبادة وإما معاملة. فكل عبادة لم يرد فيها نص من كتاب أو سنة فهي باطلة والمنع أولى بها. وكل معاملة لم يرد فيها نهي فهي صحيحة والجواز أولى بها. وكل ما مضى من جواز أو صحة أو بطلان محكوم بالأصل الثالث ألا وهو أصل النية، "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
وليس هناك فرق بين البدعة والإبداعية في الدين من حيث فساد النتيجة فكلاهما فاسد النتيجة، ولكن عند التضييق في المعنى فالبدعة في الدين عادة ما تكون ساذجة بسيطة يسهل على المسلم البسيط إذا خلصت نيته ردها ورفضها إن لم تكن قد استأصلت في مجتمعه الذي يعيش فيه بعكس الإبداعية في الدين فهي عادة ما تكون منمقة معقدة تنطلي على عقلاء القوم وعلمائهم فضلا عن عامتهم وبسطائهم.
والأمة، منذ انقضاء الخلافة الراشدة لم تخل من إبداعيين ظهرت بدعهم وإبداعاتهم فترة من الزمن أتوا فيها بالعجائب وضلوا وأضلوا كثيرا من خواص الناس وعامتهم وضلوا عن سواء السبيل.
عندما يصبح الدين صنعة يجد الإبداعيون أنفسهم في محيط أفراده متشابهون، سبب تشابههم محدودية الدين بالكتاب والسنة والأصول الثلاثة. في هذا المجتمع يصعب التفوق فيه والتميز مع الالتزام بمحدودية الدين باستثناء فئة قليلة من أفراد هذا المجتمع تكون قد رُزقت الإبداع فطرة وتجاوز همها الدينوي إلى هم يوم تشيب فيه الولدان، فلا يكون الدين صنعة لهم وتجارة أو نفوذا بل تعبد يرجون به وجه الكريم سبحانه فيشهد الله على صدقهم بأن يضع لهم القبول في حياتهم وبعد مماتهم خاصة.
وجد الفلاسفة بعد القرن الإسلامي الأول أنفسهم في مجتمع كهذا، فعلموا أنه لا سبيل للتفوق والتميز إلا بابتداع منتجات إسلامية ظاهرها الإبداع وحقيقتها خطأ في التأصيل وخلط في التنظير ومسخ في النتاج.
الإسلام دين بسيط فهمه أصحاب رسول الله على اختلاف أعمارهم وعقولهم. فجاء المعتزلة بخلفيات فلسفية أعجمية فأنزلوا الشرع عليها فأبهموا ما وضح منه وحرفوا ما استقام عليه وخلطوا ولبسوا بمصلحات جديدة وقديمة لم يألفها الناس ففتنوهم وغلبوا على الأمور فتسلطوا وظلموا واعتدوا وفسقوا وكفروا .
عندما سئل الرسول عليه السلام عن فيم العمل والأمور مقدرة قال أعملوا فكل ميسر لما خلق له وعندما سئل عليه السلام: إن ربنا ليضحك قال نعم قال الصحابي لا نعدم من رب يضحك خيرا.
هكذا، فالإسلام دين بسيط واضح لا تشدق فيه ولا تنطع فجاء المعتزلي متذاكيا، يظن أنه المدافع عن الإسلام أمام فلاسفة الملحدين والزنادقة فخلط في الأولى بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فنفى القدر وسمى ذلك عدلا وجاء في الثانية فأخطأ في التأصيل فجسم الإله ثم عاد ونفى صفة الضحك عنه جل شأنه وسلطانه وسمى ذلك توحيدا.
وجاء بدوي قد اشترى من بدوي آخر 30 رأسا من الغنم يعيدها إليه 30 رأسا مشابهة بعد سبع سنين على أن يعطيه حالا 100 ريال عن كل رأس ، فأتى اللجنة الدائمة للإفتاء (برئاسة الشيخ بن باز ـ رحمه الله ـ) يستفتيها عن شكوك ثارت في نفسه، فجاء الجواب بسيطا على النهج النبوي الشريف، لا بأس بذلك سواء كانت المائة حالة فورا أو مؤجلة (فتوى رقم 20021).
وكذلك كانت الفتوى عندما جاء آخر قد أخذ قماشا المتر بمترين مؤجلة.
والخطأ في التأصيل الشرعي للأوراق النقدية ووضع جريان الربا فيها كنتيجة مسبقة للتأصيل والخلط بين القرض والبيع والدعوى بأسلمة كل ما يأتي من الغرب هو أصل ما ابتلينا به هذه الأيام بقوم زعموا أنهم يدافعون عن الإسلام بأسلمة المعاملات المالية.
فعندما استفتى مدير محفظة استثمارية عن شراء 30 سهما يردها 30 بعد شهر و100 ريال حالة، جاء من نصب نفسه حاميا لاقتصاديات المسلمين فقال معاملة من الغرب! فحرمها ولم تكن حراما، ثم حللها بفلسفة وسفسطة وألفاظ لا معنى لها فقال عن المائة هي "عربون مستقصر" وسماها منتجا إسلاميا استخفافا بعقول الناس مسلمهم وكافرهم وما درى المسكين أنه بتكيفه هذا قد جعلها الحرام بعينه، إذ دفع العربون لا يعني التملك. وكذا فعلوا في الفقير يودع ماله عند الغني فقالوا تورق مقلوب وتورق ثنائي وصكوك وإجارة مقلوبة وغير مقلوبة وخرط وخريط خلطوا فيها البيع بالقرض تلاعبا بالتسميات والمصطلحات.
المعتزلة سموا أنفسهم دعاة العدل والتوحيد وهؤلاء سموا أنفسهم دعاة أسلمة المعاملات، وكل يظن أنه المدافع عن الإسلام، "أفمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم".
المعتزلة فلاسفة أنزلوا الشرع على الفلسفة فأتوا بمصلحات غريبة وجدال ومراء أضاعوا به الناس ففتنوهم وافتتنوا بهم. واليوم جاء اقتصاديون فأنزلوا الشرع على الاقتصاد فنظروا إلى المعاملات بمنظار اقتصادي فهدموا أعظم أصل من أصول الدين ألا وهو النية، وقلبوا المنطق فعجز القانونيون عن حل قضاياهم إذ لا حل لما لا منطق له ولا اعتبار للنية فيه، وخلطوا بين المعاملات وعقدوها وأتوا بمصطلحات لبست وخلطت على الناس ففتنوهم وافتتنوا بهم. ولو أنهم تعلموا الشرع أولا وعلموا أن الدين قد اكتمل ثم انزلوا الاقتصاد على الشرع ونظروا إلى الاقتصاد بمنظار الشرع لما زلت بهم القدم.
الاعتزال فكر عقائدي تنبني عليه أحكام فقهية خطيرة وما يسمونه بأسلمة المعاملات فكر فقهي في أصله ينبني عليه أحكام عقائدية خطيرة منها هدم أصل النية وتحويل الدين إلى ألاعيب المهرجين وحيلهم، ومنها أن الإسلام قد عجز عن مواكبة تغيرات العصر حتى فتح الله على الأمة بهذه الألاعيب ومنها الاحتيال على الربا والاستهانة بما دونه كالزنا وشرب الخمر ومنها تفسيق عامة المسلمين وولاة أمورهم وغيرها كثير.
المعتزلة الأوائل أرهبوا الناس بقوة السلطان وهؤلاء أرهبوا الناس بقذفهم بالربا وتفسيقهم إلا أن يوافقوهم على ربا المهرجين الذي ابتدعوه.
قام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والجماعة، للمعتزلة ففند زركشتهم وأظهر فساد حلو كلامهم وأبطل فلسفة آرائهم فقام المتوكل أمير المؤمنين فأظهر دين الله ونصر سنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
إذا انحرف الفكر عن المنهج النبوي الشريف صعب تصحيحه بعد ذلك. يا علماء الملة الربانيون لو لم يكن هناك أحمد بن حنبل ما كان هناك المتوكل، فمن سيحمل هم المسلمين؟