المعرفة والتقنية الرقمية ومُخالفات السير
خبر مُؤلم نقلته الصحف في الفترة الأخيرة. يقول الخبر إن الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب كشف عن خسائر حوادث السير في الدول العربية، حيث أوضح أن هذه الحوادث تُؤدي إلى "26 ألف حالة وفاة" و"ربع مليون إصابة" في السنة الواحدة. وبيّن أن تكاليف الخسائر الناجمة عن هذه الحوادث تتجاوز "60 ألف مليون دولار".
كم مأساة في هذا الخبر؟ كم أسرة فُجعت وكم أسرة تأثرت، وكم مُستقبلا ضاع أو ربما يضيع وخصوصاً بين أبناء الضحايا والمصابين؟ كم خسر الوطن ليس في حساب تكاليف الحوادث فقط، بل من جهود أبنائه وتطلعات طموحاتهم؟ كم خسر أيضاً من مكانته وسمعته؟ فارتفاع مُخالفات السير مُؤشر لانخفاض مستوى الإنسان. لقد باتت مُخالفات السير وباء ينتشر، يُصاب به عدد مُتزايد من الناس، ويحتاج إلى علاج قوي وناجع، ليس قولاً وتنظيراً فقط بل تنفيذاً أيضاً، وليس على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى المُجتمع والوطن أيضاً.
الجميع يعلم أن السرعة الزائدة تحد من القدرة على التحكم بالسيارة وتزيد نسبة الحوادث. والجميع يعلمون أيضاً أن جاهزية السيارة للحركة والسرعة ضرورة للأمان، وكذلك جاهزية الطريق. الجميع يعرفون دور الإشارات وحقوق الطريق طبقاً للأنظمة؛ والجميع يعلمون أن تحدي هذه الحقوق لا يُؤدي إلى زيادة الحوادث فقط، بل إلى إعاقة السير وارتباك الحالة النفسية لدى السائقين. إلا أن الكثير ورغم معرفته لا ينضبط مع الأنظمة. وهذا بالطبع قصور معرفي كبير تتحمل مسؤوليته وسائل الإعلام ومُؤسسات التعليم. فلا يليق بخريج الجامعة، ولا خريج التعليم العام، ولا الإنسان الناضج المُنفتح لدروس الحياة أن تكون لديه معرفة يقينية بمثل هذه القضايا ومن ثم تخالفها أفعاله لأسباب أنانية أو بحجة أنه ليس المخالف الوحيد.
إلى جانب الأثر المعرفي في العمل على الحد من مخالفات السير ومن الحوادث، هناك الأثر التشريعي، فتطبيق التشريعات والأنظمة على المُخالفين ضرورة لردعهم عنها. وهنا يأتي دور مهم للتقنية الرقمية الحاسوبية التي تستطيع أن تسهم في كشف المخالفات في كُل الأماكن وفي كُل الأوقات. إن مثل هذه الأنظمة التقنية تلزم المخالفين تدريجيا بالالتزام بالأنظمة حتى تتشكل ثقافة في المجتمع أكثر انضباطا. وقد بدأ استخدام هذه التقنية في هذا الكشف، ولكن على نطاق محدود، إلا أن الصحف نقلت إلينا أخيرا عن مسؤولي المرور أن هذا الاستخدام يأخذ طريقه إلى التوسع. وبين مُؤشرات هذا التوسع "مشروع الضبط المروري" داخل جامعة الملك سعود الذي تقوم به إدارة المرور بالتعاون مع الجامعة. ومن خلال مثل هذا التوسع، سيتم كشف المخالفين، والإثبات سيكون جاهزاً بالصورة الحية في كُل الأماكن وفي كُل الأوقات، حتى عندما يظن المُخالف أن مخالفته قد مرت دون انتباه.
إن الاهتمام بالوعي المعرفي وباستخدام التقنية الرقمية المناسبة، وتجديد التشريعات والأنظمة وتطبيقها يُعطي أملاً كبيراً بالحد من مُخالفات المرور ومن الحوادث والفواجع والمآسي والخسائر التي تُسببها. إن السائق أو حتى الراكب ينزعج كثيرا عند السير في المدن التي تكثر فيها المخالفات المرورية. مزيد من التوعية المعرفية المقرونة بأهمية الالتزام المعرفي مطلوبة من الإعلام ومن المدارس ومن الجامعات. ومزيد من استخدام التقنية الرقمية المناسبة في كشف المخالفات وتطبيق القوانين تعد به إدارات المرور. ومزيد من دور الأسرة مطلوب أيضاً في هذا المجال. وعسى أن تسهم جهود وتوجهات المملكة الحالية في الحد من حوادث المرور، ونأمل أن نسمع من الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب في المُستقبل أن أوضاع المرور في المنطقة العربية في طريقها إلى التغير نحو الأفضل.