لا ربا ولا زكاة اليوم في الذهب والفضة هو لازم الفتوى المعتمدة الآن
كنت من قبل هذه السلسلة التي بدأتها بمقال الأندلسي أتجنب طرح المسألة طرحا مباشرا وذلك من باب السياسة الشرعية. وكنت قد قررت التوقف عند ما كتبته سابقا فقد قدمت العذر إلى الله وأبرأت الذمة. وما دعاني إلى الاستمرار نصائح الفضلاء من كبار أهل العلم الذين تطمئن النفس بتعبد الله على آرائهم في استنباط أحكام الله. فقد شدوا من أزري وزودوني بالزاد من منقولات ومن عقليات، وحذروني لفظيا من تخذيل المخذلين وتثبيط المثبطين، كما نهوني عن حدة عابوها علي في بعض كتاباتي. وهم في ذلك يؤكدون أن أصول الدين ثابتة ما دامت السموات والأرض, وأما أحكامه الفقهية فقد تختلف باختلاف الزمان والمكان والأعراف.
اجتمعت هيئة كبار العلماء عام 1398هـ أي قبل 33 عاما لتقرر الفتوى الرسمية التي ستعتمدها الديار السعودية بشأن الفلوس المعاصرة, وخرج قرار الهيئة بالأغلبية وليس بالإجماع بأن الفلوس المعاصرة تعد نقدا قائما بذاته اعتمادا لقياس الفلوس المعاصرة على النقدين بعلة مطلق الثمنية في جريان الربا في الذهب والفضة والتي هي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم, ورويت في روايات غير معتمدة في بعض المذاهب الأخرى. وفتوى هيئة كبار العلماء تحتاج إلى وقفات عدة مع حيثياتها ومعطياتها ونتائجها، نقدم لها في هذا المقال.
وتمهيدا للطرح، فإن أقوال علماء السلف التي هي مستند كل مسلم ومستند جميع الباحثين في هذه المسألة يمكن حصرها في ثلاثة أقوال معتمدة لاستنباط علة الربا في الذهب والفضة.
أحدها رأي الأحناف والحنابلة بأن العلة هي الوزن فما كان موزونا قيس على الذهب وما لم يكن فلا. ونكتفي بهذا لأن فلوسنا المعاصرة لا توزن إنما هي ورق يُعد أو رقم يُقرأ, لذا فهذا القول قد خرج من البحث ولم يطرح في قرار الهيئة.
لنحصر المسألة في القولين الآخرين اللذين هما موضع اختلاف معظم علمائنا المعاصرين ـ رحمهم الله.
القول الأول وهو رأي الشافعية والمالكية في المشهور أن علة الربا في الذهب والفضة هي غلبة الثمنية, وهو اختيار ابن عثيمين ومن وافقه كما بينت في المقال السابق.
وأما القول الثاني فهو رأي ابن تيمية وابن القيم وأقوال غير مشهورة في بعض المذاهب، وهو أن علة الربا في الذهب والفضة هي مطلق الثمنية, وهو اختيار غالب أعضاء الهيئة في فتواها عام 1398هـ.
وسأختصر المسألة هنا اختصارا لا يخل بالفهم.
القول بغلبة الثمنية كعلة للربا يعني اقتصار الربا على الذهب والفضة سواء أكانا ثمنا أو سلعة أو حُليا. ولكن لا يقاس أي شيء آخر عليهما بما في ذلك الفلوس المعاصرة. أي أن العلة هنا قاصرة غير متعدية في الحكم, لذا يرى الشيخ ابن عثيمين ومن وافقه في هذا الرأي يُجري الربا ويلزم الزكاة في حلي الذهب والفضة حتى ولو لم يكونا ثمنين.
وينطرد هذا الحكم في وقوع الربا ولزوم الزكاة في الذهب الذي لم يعد ثمنا في وقتنا الحالي بل سلعة تباع وتشرى في سوق السلع الدولية.
وأما القول بمطلق الثمنية الذي اختارته الهيئة فهو لفظ عام يدخل في أفراده الفلوس والذهب والفضة وأي شيء جُعل ثمنا ولكنه يُخرج ما لم يعد ثمنا كالذهب والفضة إذا أصبحا حُلية أو أصبحا سلعة لا يُقصد الثمن فيه. لذا فالقائلون بهذه العلة لا يجرون الربا والزكاة في حُلي الذهب لغلبة السلعة عليه لا الثمن.
ومثال إطلاق العلة هو إطلاق علة الإسكار في الخمر. فالإسكار لفظ عام يُدخل في جميع أفراده كل مسكر ولو كان غازا أو حبوبا أو عسلا.
ولكن يخرج ما ليس بمسكر كالخمر والنبيذ إذا نُزعت منه مادة الكحول فأصبح خلا أو عصيرا.
والذهب بصورته الآن في أسواق السلع العالمية هو سلعة من السلع بل إنه لم يعد يصلح ألبتة لأن يكون ثمنا لأنه متذبذب السعر نسبة إلى الفلوس المعاصرة فاستُبعد حتى من الحسابات الرسمية للاحتياطيات النقدية للبنوك المركزية . الذهب والفضة الآن في الغالب، والحكم للغالب، لا يقصد فيهما إلا الربح والتجارة كسائر السلع لا الثمنية.
وقد صدرت هذه الفتوى تقريبا عام 1977 أي مباشرة بعد الانقلاب الضخم للنظام المالي العالمي عام 1973 أي قبل أن تظهر آثاره وقبل أن يدرك الناس النتائج الحتمية لهذا الانقلاب الضخم حتى من الاقتصاديين الغربيين أنفسهم. فكانت معطيات الفتوى هي معطيات ما قبل 1973.
ولم يكن هناك (أي قبل 1973) سوق لتجارة الذهب في البورصة كالتي موجودة الآن وما كان موجودا كان من باب الصرف لا التجارة. الذهب كان ثابت القيمة مع العملات الورقية, وهذا الثبات مثبت إلى الوراء حتى عام 1700 تقريبا. وهذا في الواقع لا يحتاج إلى نظر. فبتعهد البنوك المركزية، منذ مئات السنين حتى عام 1973م باستبدال الورق بالذهب بسعر ثابت معلن عند المطالبة، قد قضى على فرصة التجارة به. فكيف يربح تاجر من سلعة لا تتغير قيمتها؟ ولذا نص شيخ الإسلام على شرط ثبات القيمة للثمن في إطلاق علة الثمنية عليه، لأن الشيء إذا كان متغير القيمة أصبح موضعا للتجارة وخرج عن كونه ثمنا وهذا باتفاق العقلاء.
وما يقال عن الذهب يقال عن الفلوس المعاصرة من حيث التجارة بها. فلم يكن هناك، أي قريبا من زمن إصدار الفتوى، سوق للعملات كسوق اليوم التي تباع وتشرى فيها ما قيمتها ثلاثة تريليونات دولار يوميا. وإنما كانت سوق العملات قبل عام 1973 مقتصرة تقريبا على الصرف، أي تحويل عملة إلى أخرى. (وهناك في الواقع اختلاف جوهري بين تغير قيمة الذهب الذي هو اسمي لا حقيقي وبين تغير قيمة الفلوس المعاصرة الذي هو حقيقة لا صورة يأتي تفصيله في موضعه لاحقا).
وحتى سوق الفائدة (أي بيع التمويلات في المستقبل بسعر فائدة يحدد حالا) هي أكبر سوق في وقتنا الحاضر ولم توجد إلا بعد عام 1979م بعد أن توقف البنك المركزي الأمريكي عن تحديد سعر الفائدة سلفا لأن قيمة الدولار لم تعد منضبطة فأصبح سعر الفائدة غير منضبط ما أوجد سوق بيع المستقبل للتمويلات.
وهذا كله قد تضمنته شروط العبقري النحرير ابن تيمية في الثمن الذي يصلح لإطلاق علة الربا فيه, فالثمن قد شرطه شيخ الإسلام بأن يكون محدودا ومنضبطا وثابت القيمة فلا يتغير. وقد التبس على البعض قول شيخ الإسلام في شروط الثمن كونه محدودا بينما عرف الثمن بقوله "فالدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي".
وتحرير المسألة هنا أن شيخ الإسلام قد أطلق تكييف الثمن فلم يجعل له حدا أي شكلا أو حجما أو صورة, بينما شرط كون الشيء ثمنا بأن يكون محدودا أي في الكمية. فغير محدود الكمية كفلوسنا المعاصرة بعد انفكاكها عن الذهب لم تعد منضبطة ولا تصلح مقياسا للقيم الآجلة إلا بتخفيض قيمتها على حسب التضخم وليست مستودعا للثروة إطلاقا. هذه الخصائص لم تعد صفة للثمن كأصل فيها لا طارئ، فانتفت بذلك حيثية كبار العلماء في قرارها الذي نصه "وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولا عاما في التداول ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسا للقيم ومستودعا للثروة". أي أنه عند التحرير الصحيح، فالفلوس المعاصرة لا يصح قياسها على الذهب بعلة مطلق الثمنية لأنها خالفت شروطها عند شيخ الإسلام وخالفت حيثيات هيئة كبار العلماء, أضف إلى ذلك أن الالتزام بها على انتفاء شروطها وحيثياتها يعني أن لا ربا في الذهب والفضة اليوم ولا زكاة إن لم تعد للتجارة على قولهم.
وتأمل ـ يا رعاك الله ـ في الفضة فهي لم تعد ثمنا منذ عهد طويل مما أفقدها ثمنها حقيقة كسلعة لا اسما كالذهب فهل يجوز الربا في الفضة وتمنع زكاتها إن لم تعد للتجارة؟ فهذا هو لازم الفتوى المعتمدة الآن.
ولنقف هنا ونخرج بنتيجة من هذا المقال.
ليس الهدف من هذا المقال هو نفي جريان الربا في الذهب والفضة ومنع زكاتهما إن لم يُعدا للتجارة في زمننا الحالي, وإن كان ذلك هو لازم الفتوى المعتمدة اليوم، بل الهدف هو طرح وجهة نظر بعدم استمرار صلاحية الفتوى المعتمدة اليوم لتغير المعطيات والحيثيات التي اعتمدت عليها ولحدوث معطيات جديدة تؤدي إلى محظورات شرعية خطيرة إذا التزمنا بالفتوى.
التحرير الدقيق لعلة مطلق الثمنية المعتمدة في الفتوى الآن يستلزم عدم جريان الربا لا في الذهب لأنه أصبح سلعة ولا حتى في الفلوس المعاصرة لعدم تحقيق شرطي ثبات القيمة واستيداع الثروة.
ولازم عدم جريان الربا في الذهب إذا أصبح سلعة لم يكن غائبا عن أذهان العلماء في ذلك الوقت, لذا فقد نصوا في الفتوى على النقدين لا على الذهب والفضة. والتخصيص هنا مقصود لأنه هو موضع الخلاف مع المخالفين وشاهده مخالفة ابن عثيمين هذه الفتوى بقوله "وأقرب شيء أن يقال إن العلة في الذهب والفضة كونهما ذهبا وفضة، سواء كانا نقدين أو غير نقدين" انتهى.
ولكن الذهب في ذلك الوقت وقبله قد كان ثمنا. ومن احتفظ به فهو يحتفظ به كثمن يستبدله بقيمة ثابتة أمام الفلوس التي كانت ثابتة بدورها أمام الذهب، فكانت المعاملة صرفا لا تجارة. وأما الآن، والحكم في الشرع للغالب وللعرف، فالذهب مجرد سلعة يُضارب بها وتباع وتشرى على أنها سلعة في سوق السلع الدولية لا يجادل في هذا منصف عارف. وقد يرد بأن يقال إن الذهب والفضة في جوهرهما ثمن وقد ورد فيهما النص. وأقول هذا إيراد صحيح موفق وقد وافقت إذن الشافعية والمالكية في الإيراد الأول ومن تبعهم من المعاصرين كابن عثيمين ووافقت الظاهرية في الثاني فالتزم بذلك ولا تقيس الفلوس المعاصرة عليها وهذا هو معنى غلبة الثمنية.
وبذلك يتبين جانب من المحظورات التي لم يستهن بها أو يتجاوزها ابن سعدي وابن حميد وابن بسام وابن عثيمين وغيرهم من كبار العلماء والتي أشرت إليها في المقال السابق. وللحديث بقية، نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه.