رؤية المملكة ومنطلقات تطوير التعليم العالي «2 من 2»

بدأنا في المقال السابق الحديث عن منطلقات لتطوير التعليم العالي نحو مزيد من التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وركزنا في هذا المجال على المنطلقات ذات العلاقة بالوثيقة الرئيسة لرؤية المملكة 2030، وكذلك الوثيقة الإعلامية لأحد برامجها، وهو برنامج تنمية القدرات البشرية. وقد اختص المقال السابق بجانب توجهات التعليم العالي نحو الإسهام بالتنمية الاقتصادية، واهتم، في هذا المجال، بالتعليم وضرورة توافقه مع متطلبات سوق العمل، وتفعيله إمكانات التميز والابتكار. كما اهتم أيضا، بالبحث العلمي، والحاجة إلى سعيه نحو إطلاق Spin-Off منشآت جديدة واعدة تؤدي إلى توليد الثروة، وتشغيل اليد العاملة، والإسهام في التنمية، وتعزيز استدامتها.
غاية هذا المقال هي العمل على استكمال ما ورد في سابقه عبر التركيز على توجه التعليم العالي نحو التنمية الاجتماعية. ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى تداخل طرفي التنمية الاقتصادي من جهة، والاجتماعي من جهة أخرى. فهما متفاعلان معا من أجل خدمة المجتمع، ففي التنمية الاقتصادية تمكين للتنمية الاجتماعية، وعكس ذلك أيضا صحيح. وتكمن أهمية مؤسسات التعليم العالي في أنها مؤسسات خدمية تسهم في طرفي التنمية، عبر تنمية إمكانات الأبناء وتفعيل توجههم نحو التميز والعطاء.
تتمثل منطلقات رؤية المملكة، ذات العلاقة بدور مؤسسات التعليم العالي في التنمية الاجتماعية، بتوجهها نحو بناء الإنسان الواعي المتميز بحس المسؤولية. فهي تحمل مضامين فكرية مفيدة يجدر بمؤسسات التعليم العالي توعية طلبتهم بشأنها. وهي تعطي توجهات مرغوبة ينبغي لهذه المؤسسات تعزيز الاهتمام بها وتفعيل حضورها في شخصيات خريجيها. وسنلقي بعض الضوء، فيما يلي، على كل من جانب المضامين الفكرية للتوعية المطلوبة، وجانب التوجهات المنشودة.
تقدم رؤية المملكة، في إطار المضامين الفكرية، ثلاث حقائق رئيسة حول المملكة تلخص تميزها الطبيعي، كما تعطي محاور ثلاثة ترتبط بمسيرتها المستقبلية. إذا بدأنا بحقائق التميز الرئيسة نجد أن الحقيقة الأولى تتمثل في العمق العربي والإسلامي الذي يعطيها مكانة حضارية خاصة، تتجاوز حدودها الجغرافية لتصل إلى جميع العرب والمسلمين أينما كانوا. أما الحقيقة الثانية، فترتبط بموقعها الجغرافي الرابط بين القارات الثلاث المكونة لما يعرف في العالم القديم آسيا وإفريقيا وأوروبا. ويعد طريق التجارة الشهير، المعروف بطريق الحرير، شاهدا تاريخيا على هذا الموقع المتميز. ونصل إلى الحقيقة الثالثة وهي حقيقة الموارد الطبيعية للمملكة التي تجعلها قوة استثمارية رائدة تتمتع بقدرات اقتصادية تميزها عن كثير من دول العالم الأخرى.
إذا انتقلنا إلى المحاور الثلاثة لرؤية المملكة لمسيرتها المستقبلية، نجد أن المحور الأول يقضي ببناء مجتمع حيوي يرسخ القيم، ويعزز بنيان المجتمع بما يشمل لبناته الرئيسة المتمثلة في شخصية الفرد وتماسك الأسرة، إضافة إلى سعيه إلى بناء بيئة حياة عامرة للجميع. أما المحور الثاني فيهتم ببناء وطن طموح يتمتع بحكومة فاعلة ومواطنة مسؤولة. ويركز المحور الثالث على التوجه نحو اقتصاد مزدهر يتمتع بفرص مثمرة، وتنافسية جاذبة، وموقع مستغل، إضافة إلى استثمار فاعل.
ولا شك أن المضامين الفكرية لكل من الحقائق الثلاث التي أوردتها الرؤية، ولكل من محاور التوجهات الثلاثة التي طرحتها، تستحق اهتمام مؤسسات التعليم العالي، وعملها على توعية طلبتها بشأنها. ففي هذه المضامين ما يعزز وعي الشباب بمشهد المستقبل المنشود حضاريا واقتصاديا واجتماعيا، وتفاعله مع معطيات مسيرة العالم، والتقدم التقني المتسارع الذي يميز هذه المسيرة. ولعل بالإمكان تحقيق هذه التوعية عبر مقرر عام يقدم لطلبة التعليم العالي، في إطار المتطلبات الدراسية العامة. ولا شك أن اكتساب مخرجات التعليم العالي هذه التوعية يزودها بنظرة نحو المجتمع تحمل آفاقا جديدة للعمل والإنجاز والإسهام في التنمية بشقيها الاجتماعي والاقتصادي.
وننتقل من طرح مضامين الرؤية، وضرورة سعي مؤسسات التعليم العالي إلى توعية طلبتها بشأنها، إلى بيان توجهات مرغوبة تقدمها الرؤية، ويجدر بمؤسسات التعليم العالي اعتمادها كمنطلقات يجب الإسهام في تفعيلها، في برامج تأهيل الخريجين وخدمة المجتمع. وسنركز في هذا المجال على أربعة توجهات رئيسة تشمل: التوجه نحو بناء المواطنة المسؤولة الوارد في محور الرؤية الخاص بالوطن الطموح، والتوجه نحو الحياة الصحية الوارد في محور الرؤية المتعلق بالمجتمع الحيوي، ثم التوجه نحو استدامة البيئة المرتبط بالمحور ذاته، ويضاف إلى ذلك توجه تحسين بيئة الأعمال الوارد في محور الاقتصاد المزدهر.
يقضي التوجه نحو المواطنة المسؤولة بتعزيز روح المسؤولية على المستويات الثلاثة التي تحيط بحياة الإنسان: مستوى العمل والحياة المهنية، ومستوى المجتمع، إضافة إلى مستوى الحياة الشخصية. واللافت هنا أن الرؤية لا تدعو إلى المواطنة المسؤولة فقط في إطار محور الوطن الطموح، بل تدعو أيضا إلى حكومة فاعلة في إطار المحور ذاته. ويعبر وجود التوجهين معا عن طموحات تتطلع إلى المستقبل بمنظار واع، ومشهد واسع الأبعاد.
يعزز بناء المواطنة المسؤولة التوجه نحو الحياة الصحية. فمسؤولية الحياة تقضي بعناية الإنسان بصحته والمحافظة على جسمه، فلا إفراط في الطعام ولا تفريط، وكذلك لا إفراط في الحركة والرياضة ولا تفريط. فالعقل السليم في الجسم السليم، ولا شك أن الابتعاد عن مسببات الأمراض يمنح الإنسان قدرة أفضل في أداء الأعمال، وفكرا أوسع للطموح والسعي إلى التميز. ويبرز بناء المواطنة المسؤولة أيضا، التوجه نحو استدامة البيئة، والمحافظة عليها نظيفة معافاة من أي تلوث يمكن أن يؤذي الجميع، محليا وعالميا. ويضاف إلى ذلك حقيقة أن توجه تحسين بيئة الأعمال يتعزز ليس فقط ببناء المواطنة المسؤولة، بل بتعزيز الحكومة الفاعلة أيضا.
وهكذا نجد، من خلال هذا المقال وسابقه، أن مؤسسات التعليم العالي، عبر سعيها إلى إعداد الإنسان لدور إيجابي فاعل في الحياة، تستطيع الاستفادة من معطيات رؤية المملكة 2030 لتحديد منطلقات مفيدة تسهم في مسيرتها المعرفية المستقبلية، وخدماتها المتطورة للمجتمع اقتصاديا واجتماعيا. ولا شك أن لهذه المؤسسات إنجازات مشهودة في خدمة المجتمع، لكن المزيد مطلوب دائما، والطموحات دائما متجددة، ومسيرة المعرفة بإذن الله واعدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي