منطقة اليورو أمام معضلة «البنادق أو الزبدة» .. أين ستوجه الأموال؟
أوائل هذا الشهر، عم مزيج من الارتياح والتفاؤل الحذر الأوساط الاقتصادية في منطقة اليورو، إذ كان أداء العملة الأوروبية الموحدة أفضل من المتوقع، مع انخفاض معدل التضخم السنوي في نوفمبر إلى 10 في المائة، وبذلك يكون التضخم قد تباطأ في منطقة اليورو لأول مرة منذ 2021، تحديدا منذ 17 شهرا.
كان انخفاض أسعار الطاقة عنصرا رئيسا وراء تراجع معدل التضخم في منطقة اليورو، مع هذا لا يزال الخبراء في شك من أمرهم بأن الانخفاض في مستويات الأسعار سيتواصل في الفترة المقبلة، وإذا كانت إسبانيا لديها الآن أدنى معدل تضخم في منطقة العملة الأوروبية الموحدة، حيث لا يتجاوز 6.6 في المائة، بينما لم يزد في فرنسا عن 7.1 في المائة، فإن ألمانيا تقف عد حدود 10 في المائة.
أغلب التكهنات في الوقت الراهن تشير إلى أن الانخفاض في مستويات الأسعار خلال الشهر الماضي لم يكن إلا انخفاضا مؤقتا، وأن العوامل الدافعة إلى التضخم لا تزال فاعلة، وستقود اقتصاد منطقة اليورو إلى موجة تضخمية مستقبلية، بحيث يمكن الجزم بأن الموجة التضخمية في 19 دولة أوروبية تعتمد اليورو عملة موحدة لها لم تصل إلى ذروتها بعد.
وتبدو تلك القناعات سائدة من تصريحات كبار المسؤولين في المؤسسات الأوروبية، إذ رجحت المفوضية الأوروبية أن منطقة اليورو ستعاني ركودا اقتصاديا هذا الشتاء مع استمرار التضخم لفترة أطول من المتوقع.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" بول مكارثي الباحث في المنتدى الاقتصادي العالمي، "ربما يفهم وضع التضخم في منطقة اليورو من سعر فنجان القهوة، الذي يعد احتساؤه جزءا أساسيا من الروتين اليومي للمواطن، فالزيادة الهائلة في أسعار القهوة التي تعد سلعة رئيسة تجعل من هذا المشروب رفاهية باهظة الثمن بالنسبة إلى كثيرين".
ويضيف "الأجور الحقيقية وثقة المستهلك في تراجع، وهذا يثير رياحا معاكسة للنمو، ويزيد من احتمالات الاضطرابات الاجتماعية، وهو ما نشهده في الوقت الراهن من تصاعد الإضرابات العمالية في عديد من دول منطقة اليورو".
يمكن القول إن منطقة اليورو التي تضم أقوى الاقتصادات الأوروبية تعاني حاليا مزيجا ساما اقتصاديا، حيث يترافق التضخم مع نمو متعثر، فالاقتصادات المتقدمة في أوروبا ستنمو 0.6 في المائة فقط العام المقبل، في حين إن الاقتصادات الناشئة ستتوسع 1.6 في المائة، وسيعاني أكثر من نصف دول منطقة اليورو ركودا فنيا مع انكماش في الإنتاج لربعين متتاليين على الأقل.
لا يرى المسؤولون في منطقة اليورو من حل أمامهم لكبح جماح التضخم غير مواصلة رفع أسعار الفائدة. وفي يوليو الماضي رفع "المركزي الأوروبي" أسعار الفائدة في أول زيادة له منذ أكثر من 11 عاما، وسط توقعات بأن يعود إلى رفعها مرة أخرى قبل نهاية العام الجاري أو بداية العام المقبل.
على الرغم من ذلك يرى البروفيسور إل. دي. مارتين أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة لندن، أن رفع الفائدة من قبل "المركزي الأوروبي" لم يؤت ثماره بشكل ملموس حتى الآن، وأن انخفاض الأسعار في نوفمبر الماضي لا يعود إلى نجاعة السياسة المالية في منطقة اليورو، إنما إلى عوامل خارجية، منها انخفاض أسعار الطاقة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "استمرت ضغوط الأسعار في التعزيز والتوسع عبر اقتصاد دول منطقة اليورو، الأمر الذي دفع المركزي الأوروبي إلى رفع أسعار الفائدة للحاق بالركب على غرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا اللذين رفعا أسعار الفائدة".
ويؤكد أن أوروبا بصفة عامة ومنطقة اليورو تحديدا تواجه معضلة البنادق أو الزبدة، وهي الحالة التي يتعين فيها على الأمة في الأوقات الصعبة أن تختار إذا ما كانت ستنفق الأموال العامة على الدفاع أم على احتياجات مواطنيها، لكن السياسيين في أوروبا يعملون على تقديم الأسلحة لأوكرانيا، وفي الوقت ذاته الزبدة لشعوبهم، لضمان أصوات الناخبين في الانتخابات، ولذلك لا يجدون حلا غير الاستدانة ومزيد من الاقتراض.
وبالفعل فإن الأرقام المتاحة المتعلقة بامتثال دول منطقة اليورو للقواعد المالية التي حددتها هي لذاتها تكشف أن نحو 50 في المائة من تلك الدول التزمت بها فقط خلال الفترة بين 1998 و2019، أما الانضباط المالي الذي يحدد سقف العجز المالي والديون الحكومية بنسبة 3 في المائة و60 في المائة على التوالي فقد فشل 50 في المائة من دول منطقة اليورو في تحقيقه.
مع ذلك لا يزال هناك كثير من الأصوات المتفائلة التي ترى أنه ليس بالضرورة أن تعاني منطقة اليورو التي تعد جوهر الاتحاد الأوروبي نموا فاترا في الأعوام المقبلة بسبب التضخم. صحيح أن الحرب الأوكرانية أوقفت الانتعاش قصير الأجل الذي شهدته أوروبا في أعقاب جائحة كورونا، وأدى ارتفاع التضخم وما ترتب على ذلك من تشديد في السياسة النقدية إلى تقليص الحيز المالي العام.
كما أن اضطرابات التجارة الدولية وتراجع التدفقات المالية ودرجة من عدم اليقين الاقتصادي تركت بصماتها ولا شك على اقتصادات منطقة اليورو، ومع هذا التزمت دول العملة الأوروبية الموحدة بالتحولات الخضراء والرقمية، حيث تسعى إلى تقليص الفجوة التكنولوجية مع منافسيها، وزيادة الإنفاق على البحث والتطوير، وتبني مجموعة من الإصلاحات المدروسة لتعزيز القوى العاملة وزيادة الاستثمارات وتحسين أداء المؤسسات العامة.
بدوره، يرى ريتشارد ستوكا الخبير في الشأن الاقتصادي الأوروبي، أن منطقة اليورو، تحديدا ألمانيا وفرنسا، تحاول الابتعاد عن فخ الركود التضخمي، لكنها تحاول أيضا رفع أسعار الفائدة، دون إثارة الذعر في أسواق السندات الحكومية بشأن الأوضاع المالية في أكثر دول المنطقة مديونية.
ويوضح لـ"الاقتصادية" أن صانعي السياسة المالية لديهم تحديات متعددة للتعامل معها في ظروف مختلفة إلى حد كبير، ولا شك أن السياسة النقدية تمر بمنعطف خطير، لكن الأساس الاقتصادي لدول منطقة اليورو لا يزال صلبا ومتماسكا، والاهتزازات التي يتعرض لها لا تعود إلى عوامل داخلية بقدر كونها ضغوطا خارجية، وسيكون قادرا على التصدي لها على الأمد الطويل.
الأمر المؤكد في الوقت الراهن أن البنك المركزي الأوروبي سيكون أكثر صرامة وحزما تجاه التضخم. لكن هيلدي سميث الخبيرة المصرفية ترى أن جوهر المشكلة لا يكمن في مرونة أو صرامة السياسية المالية للمصرف المركزي الأوروبي، إنما في الهيكل العام للفلسفة المالية التي تحكم منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن الأمر الذي لم يتغير بالنسبة إلى المركزي الأوروبي منذ تأسيسه هو أنه لا يزال يجمع اتحادا نقديا، أي العملة الأوروبية الموحدة اليورو، دون أن تكون لديه بنية تحتية داعمة لاتحاد مالي أو اتحاد مصرفي أو اتحاد أسواق رأس المال".
وتؤكد أن الهيكل المؤسسي لمنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي غير مكتمل بأي حال من الأحوال، وهذا هو جوهر المشكلة الاقتصادية في منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي.