رسالة موجهة إلى الهيئة العامة للسياحة والآثار ووزارة النقل

خلافاً لبعض الكتاب الأفاضل الذين حباهم الله بمعرفة واسعة وتجارب جمة وناجحة تمكنهم من الكتابة في شتى المواضيع من اقتصادية وسياسية ودبلوماسية وثقافية ورياضية ... إلخ فإنه ليس من عادتي أن أكتب في موضوع يخرج من اختصاصي أو أن اشخصن المواضيع التي أتناولها. إلا أن الأمر الذي حدث يوم الخميس الماضي (2 رجب 1430 الموافق 25/06/2009) الذي كنت طرفاً فيه يملي علي أن أرويه بما يلزم من التفاصيل بهدف رفع الأمر إلى أصحاب الشأن.
تجمعني مع عدد من الأصدقاء من جميع أنحاء المملكة ومنذ أكثر من عشر سنوات هواية قد تبدو غريبة على مجتمعنا وهي صعود الجبال. نمارس هذه الهواية في مختلف مناطق المملكة. من جبال السودة في عسير التي حددت دروبها وعملت لها جسور للمشاة بمبادرة وإشراف من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل عندما كان أميرا لمنطقة عسير، إلى التسنيدة من ينبع البحر إلى ينبع النخل، إلى جبال الهدى والشفاء في منطقة الطائف إلى صبحا وجبله في وسط المملكة. كما مارسنا هوايتنا هذه خارج المملكة في كل من لبنان وفرنسا وسويسرا وبروناي والبوسنة والهرسك والولايات المتحدة. وقد لفت نظرنا في معظم المناطق الأجنبية التي مارسنا فيها هذه الهواية عناية من الجهات المسؤولة بهذه الدروب بما في ذلك وضع لوحات في بداية الطريق تشرح فيها أهميته والمناطق التاريخية التي يمر بها وتحذيرات مشددة بعدم العبث به أو تخريبه أو التعرض للآثار والأشجار التي يمر بها، مع الإشارة إلى المواد القانونية والعقوبات التي ستطبق بحق المخالفين. فكنا نمر على طرق رومانية مرصوفة وممرات للخيول والعربات من أيام العصور الوسطى. وقنوات طويلة. حفرت لغرض النقل المائي. وجميع هذه الدروب والطرق والقنوات محمية بموجب القانون وتعد ثروة وطنية وإرثا ثقافيا وحضاريا لا يجوز المساس به.
ويقوم الدكتور أحمد محمد علي رئيس مجموعة البنك الإسلامي للتنمية برعاية مجموعتنا هذه واقتراح أماكن جديدة للزيارة وإضافة أعضاء جدد. فهو الراعي لهذه المجموعة.
ولكل مكان من الأماكن التي مارسنا فيها هوايتنا نكهته وذكرياته الحلوة منها والمرة. إلا أن أقرب مكان إلى قلوبنا جميعاً هو ما يسمي "درب الجمال" الذي يتفرع منه درب للمشاة الذي يعد أقصر طريق بين مكة المكرمة والطائف. فكنا نقطعه مرتين في السنة على الأقل. نستمتع بمناظر سفوح الجبال المحيطة بالوادي الكبير الذي يقسم هذه الجبال إلى قسمين والذي قد نصادف جريانه. فنشاهد أنواعاً مختلفة من النباتات الجبلية حسب فصول السنة. وكان هذا الطريق مرصوفاً بالحجارة وعلى جانبيه رصف محكم في معظم أجزائه. وقد يتسع في مناطق ثم يضيق في أخرى. وتصادفنا بعض التشققات والانهيارات التي حدثت للطريق بفعل السنين والسيول. لكنها لم تؤثر بشكل عام في الطريق (الدرب). وبقيت معالمة واتجاهاته واضحة. وفي زاوية حادة من أحد انعطافاته كان هناك جسر خشبي صغير يعطي شعوراً خاصاً لمن يمر عليه بما يجعل الرحلة أكثر مخاطرة وإمتاعاً، ويروى لنا بعض زملائنا أن هذا الطريق كان معروفاً قبل الإسلام، وهناك مكان فسيح لاستراحة الجمال ونقل حمولتها إلى الحمير في المراحل الأخيرة والصعبة من الطريق عندما ينحدر الجبل انحداراً شديداً، فيضيق الطريق وتكثر تعرجاته، وقد ذكر الزملاء أن هناك رواية تقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قد مر من هذا الطريق عندما ذهب إلى الطائف لدعوة أهلها للإسلام، فاساءوا استقباله ورموه بالحجارة حتى دميت رجلاه ثم قفل راجعاً من الطريق نفسه، وكان الوقت ليلاً، فأتاه ملك الجبال – حسب الرواية – وقال له "لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين – أي الجبلين" فرفض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائلاً: "عسى أن يخرج من أصلابهم من ينتصر الإسلام على يده" أو كما قيل.

#2#

#3#

#4#

#5#

#6#

#7#

#8#

#9#

#10#

#11#

#12#

كانت رحلة صعودنا المعتادة لهذا الطريق تستغرق ما بين ساعتين وخمس وأربعين دقيقة إلى ثلاث ساعات، وقد حرمت مجموعتنا من ارتياد دربها المفضل لمدة تزيد على ثلاث سنوات نتيجة لإقفال طريق الهدى لأغراض الصيانة والتوسعة، وفي أول يوم لافتتاح طريق الهدى الشهر الماضي تلقينا اتصالاً هاتفياً من الدكتور أحمد محمد علي يزف لنا البشارة ويحدد لنا موعداً لزيارة دربنا المفضل بعد غياب طويل، وكان الخميس الماضي هو يومنا الموعود، وفي هذا اليوم الموعود وصل قرابة نصف مجموعتنا إلى نقطة التجمع في جدة عند الساعة السادسة والنصف صباحاً وهم كل من:
الدكتور أحمد محمد علي – رئيس مجموعة البنك الإسلامي للتنمية.
المهندس صبحي بترجي – رئيس مجموعة مستشفيات السعودي الألماني.
حمزة صبحي بترجي – ابن المهندس صبحي وطالب جامعي يدرس إدارة الأعمال الدولية، الدكتور صالح الأنصاري – رئيس قسم طب الأسرة لدى كلية الطب التابعة لمدينة الملك فهد الطبية في الرياض، الأستاذ حبيب البكري – رجل أعمال من جدة، الدكتور عبد الله القويز، وقد تغيب بقية الزملاء لأسباب مختلفة.
وصلنا إلى بداية الانطلاق عند الساعة الثامنة والنصف، وكانت فرحتنا كبيرة عندما رأينا لوحة جديدة عند بداية الطريق وضعتها الهيئة العامة للسياحة تذكر شيئاً عن تاريخه حيث أشارت إلى أنه استخدم قبل ظهور الإسلام، إلا أن الذي رصفه هو محمد سعيد النوبي في سنة 400 للهجرة، بعد ساعتين من الصعود اكتشفنا أن الجزء الذي كان مقاما عليه الجسر الخشبي قد اختفى تماماً وجزء كبير من الدرب كان مطموراً بالصخور الكبيرة المنحدرة من الطريق العام أثناء فترة التوسعة، ولحسن الحظ شاهدنا جزاً من الدرب فتعرجنا بصعوبة بين الصخور المتحركة ولمدة خمس وعشرين دقيقة حتى وصلنا إليه، ثم استمررنا في صعودنا إلى أن وصلنا إلى الساحة الكبيرة التي كانت تستخدم لنقل الأمتعة من الجمال إلى الحمير والأفراد، ورأينا ويا لهول ما رأينا إن كامل الطريق المتبقي وهو الجزء المتعرج الذي يمر بأصعب انحدار قد طمر تماماً ولم يبق منه أي أثر، فقام أحدنا بتلمس طريقه بين الصخور الكبيرة والانحدارات الحادة الملساء إلى أن وصل إلى نقطة النهاية، وتبعه اثنان من المجموعة وقد تساقطت بعض الصخور التي كادت تودي بحياة أحد زملائنا، كما لم يتمكن اثنان من زملائنا من إكمال الرحلة بفعل التعب والشمس والانحدار الشديد، فحاولنا إنزال بعض الحبال إلا أنها لم تكن كافية ونزل أحد الزملاء لعله يستطيع المساعدة فلم يتمكن، لذا لم يكن هناك بد من دعوة الدفاع المدني، وما هي إلا دقائق حتى حضرت سيارة الدفاع المدني مجهزة بأحزمة وحبال ونزل أحد أفرادها بعد أن خلع حذائيه إلى زملائنا وأوثقهم بالأحزمة فرداً فرداً حتى صعدوا جميعاً سالمين، وقد استغرقت الرحلة ست ساعات وعشر دقائق، وبهذه المناسبة لا يسعني إلا أن أقدم الشكر الجزيل للدفاع المدني والهلال الأحمر في الطائف وعلى الأخص لأولئك الأفراد الشجعان المدربين الذين تمكنوا من إنقاذ زملائنا في أقصر مدة، والغريب في الأمر أنه عند وصولنا إلى نقطة النهاية وجدنا لوحة جديدة من لوحات الهيئة العامة للسياحة مشابهة لتلك التي رأيناها في بداية الطريق مع أنه لا يوجد هناك طريق بالمرة . فقد اختفت معالمه تماماً. فيا للعجب.. دول العالم ترسل البعثات وترصد المبالغ وتجند الفرق المتخصصة للتنقيب عن الآثار وحفرها وإزالة الأتربة والصخور عنها وصيانتها والعناية بها وتدريسها في المدارس والجامعات ونحن نسمح للعابثين من المقاولين بطمرها وإخفاء معالمها رغم أنها لم تكن في مكان يصعب تجنبه.
والأسئلة التي أود أن اطرحها في نهاية هذا الاستعراض هي ما يلي:
1 – ألم يكن من الأجدر بالهيئة العامة للسياحة الراعي الوطني لحماية ثقافتنا وتراثنا الديني والحضاري أن تراقب هذا الطريق التاريخي وتحافظ عليه من العبث.
2 – كيف سمحت وزارة النقل ومهندسوها وطاقمها الفني لمقاول لا يهمه إلا إكمال عقده مباشرة أو من الباطن أن يعبث بإرث وطني وتاريخي وربما ديني وأن يمحوه من الوجود.
إنني أناشد الجهات المسؤولة أن تعمد إلى إصلاح الخطأ وأن تعيد هذا الدرب التاريخي إلى حالته السابقة وأن تضع قوانين ومراقبين للمحافظة على تاريخنا وثقافتنا وما يحويه وطننا من معالم تاريخية.
حفظ الله مليكنا ورعاه من كل مكروه، فهو حامي بلادنا – بعد الله – وأهلنا وتاريخنا وحضارتنا وآثارنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي