نبوغ الدول .. خصائص ومؤشرات

تبرز أمامنا في الحديث عن النبوغ ثلاث صفات رئيسة: أولاها، صفة "القدرة العالية"، وثانيتها صفة "الموهبة"، وثالثتها صفة "النبوغ".

ويختلط استخدام هذه الصفات، حيث تستخدم أحيانا بشكل متبادل حاملة المعنى ذاته، كما تستخدم حاملة معاني مختلفة.

المصطلح الأكثر عمومية، في معناه، هو "القدرة العالية" الذي يعبر عن تمتع الإنسان بتميز في قدرته الشخصية على الآخرين في مجال أو أكثر، ويشمل هذا المعنى معنى الموهبة، كما يتضمن معنى النبوغ، وربما يحتوي أيضا معنى امتلاك الإنسان إمكانات خاصة يكتسبها بالتأهيل والاجتهاد والخبرة، بعيدا عن أي موهبة أو نبوغ.
يمكن أن ننظر إلى "الموهبة" على أنها صفة تميز تحمل قيمة، يمنحها الله تعالى للإنسان، ويعطيه فرصة التفوق على الآخرين في مجالها، إذا ما استطاع تنميتها.

وقد تبقى هذه الصفة كامنة وغير مفعلة، ما لم يتم اكتشافها ورعايتها وتمكينها. وتتنوع مجالات الموهبة تبعا لطبيعتها، وتختلف بين شخص وآخر.

وقد ترتبط بمعرفة نظرية كالرياضيات، أو قد تتعلق بمهارة عملية كالفنون التشكيلية، أو ربما بخصائص الطبيعة الإنسانية كالشخصية القيادية، أو حتى بالقدرة الحركية كالتفوق الرياضي، أو غير ذلك من إمكانات وصفات تميز.

وتحتاج الموهبة إلى رعاية تسعى إلى تنميتها وتمكينها، لكي تصبح قادرة على العطاء، وتقديم قيمة متميزة تتجاوز ما يمكن للآخرين تقديمه.
هنا تبرز صفة "النبوغ"؛ وهي الصفة التي يؤمل أن يصل إليها صاحب صفة الموهبة عندما تحظى موهبته بالرعاية والتنمية اللازمة، لتنطلق نحو تقديم عطاء مشهود، يسهم في التنمية ويعزز استدامتها.

ولا ترتبط صفة النبوغ بصفة الموهبة فقط، بل ربما يكتسبها الإنسان صاحب التأهيل والخبرة الطويلة، خصوصا عندما يتمتع بالشغف إلى المعرفة، والحماس للعمل، والتعمق في التفاصيل.

وهكذا نجد أن للنبوغ مصدرين، مصدر يتمثل في الإنسان الموهوب الذي تمت رعايته وتأهيله وتفعيل إمكاناته، وآخر يتجلى في الإنسان المؤهل الطموح المتطلع إلى اكتساب الخبرة، وتحقيق التميز.

لكن يبقى نبوغ الإنسان الموهوب حالة متقدمة، خصوصا عندما يتمتع هو أيضا بالشغف المتوافق مع موهبته، والحماس للعمل والعطاء.
تتساوى الدول في مستويات الموهبة فيها، لأن حظوظ الموهبة التي يمنحها الله تعالى للإنسان متساوية بين جميع الأمم.

ودليل ذلك أن الحضارة الإنسانية لم تأت من أمة واحدة، بل كانت حصيلة شراكة أمم مختلفة عبر التاريخ. يضاف إلى ذلك حقيقة التنافس في الإبداع والابتكار، والتقدم العلمي والتقني، الذي نراه اليوم بين الأمم على أرض الواقع.

ويلاحظ هنا أن نبوغ الأمم يأتي حينما تتوافر لديها البيئة المناسبة لنبوغ الأبناء سواء كانوا من الموهوبين أو من غيرهم، ومن حماسهم وشغفهم وإقبالهم على العطاء وتحقيق التميز.

فنبوغ الأمم يأتي من نبوغ الإنسان فيها، ونبوغ الإنسان فيها تفرزه البيئة المعرفية الفاعلة التي تحيط به، التي لا تكتفي باكتساب المعرفة والإبداع فيها، بل تسعى إلى توظيفها والاستفادة منها.
طرح "المعهد الدولي من أجل التنمية الإدارية IMD" دليلا لتقييم نبوغ الدول على أساس منهجية تشمل عوامل وخصائص ومؤشرات تمثل، كما يرى باحثو المعهد، متطلبات البيئة اللازمة لنبوغ الأفراد. وتقيس المنهجية مستوى تحقق هذه المتطلبات في 63 دولة من دول العالم المختلفة.

ويهتم المعهد بشؤون الأعمال والتنمية، ويقوم بالتعليم والتدريب وإجراء البحوث فيها، ويمنح درجات علمية في مجالاتها.

وتم إنشاء المعهد من قبل رجال الأعمال في سويسرا قبل أكثر من 70 عاما، وله حاليا مركزان رئيسان أحدهما في "سويسرا" والآخر في "سنغافورة"؛ وله أيضا نشاطات تعاونية مع معاهد مماثلة حول العالم.
ترى منهجية دليل التقييم أن لمشهد النبوغ في دولة من الدول ثلاثة أبعاد رئيسة.

يتمثل البعد الأول بما تقوم به الدولة من استثمار وتنمية في رعاية الناشئة وتأهيلهم، وتعزيز قدراتهم، وإبراز مواهبهم وإظهار نبوغهم. ويرتكز البعد الثاني إلى خصائص تعبر عن "جاذبية الدولة"، من حيث توافر البيئة المناسبة لنمو الموهبة وبناء النبوغ.

ثم يتجلى البعد الثالث بمدى "جاهزية الدولة"، بمعنى مستوى قدرتها على تفعيل قدرات الموهبة والنبوغ. وتعبر المنهجية عن كل من هذه الأبعاد بمجموعة من الخصائص القابلة للقياس والتقييم.

ويبلغ مجمل عدد هذه الخصائص "31 خاصية"، وسنستعرض موضوعات هذه الخصائص تبعا للأبعاد الثلاثة.
يتضمن بعد "الاستثمار والتنمية" مؤشرات لخصائص تهتم بحجم الإنفاق العام على التعليم العام نسبة إلى الناتج الإجمالي المحلي، وما يتفرع عن ذلك، بما يشمل معدل الإنفاق على الطالب الواحد. وتهتم هذه المؤشرات والخصائص أيضا بنسبة الطلاب إلى المعلمين في مراحل التعليم العام المختلفة.

يضاف إلى ذلك مستوى التدريب من أجل العمل، وكذلك التدريب على رأس العمل، ونسبة عمالة النساء، إضافة إلى متطلبات بنية الرعاية الصحية.

ويشمل بعد "الجاذبية" مؤشرات لخصائص تتعلق بالأنظمة التشريعية، ونظافة البيئة، وتكاليف المعيشة، والدخل في المهن المختلفة، والنظام الضريبي، ومستوى المعيشة، ومستوى التمكن من المحافظة على النابغين، وعدم هجرتهم إلى الخارج.

ويضاف إلى ذلك مدى التمكن من جذب أصحاب الخبرات من الخارج.
وننتقل إلى بعد "الجاهزية" الذي يشمل مستوى التعليم العام، ومستوى طلبة التعليم العام تبعا "لبرنامج تقييم الطالب العالمي PISA".

ويهتم هذا البعد أيضا بالتعليم الجامعي، ونسبة الطلاب الأجانب، ونسبة خريجي العلوم، وحالة التعليم في المجال الإداري، والمهارات اللغوية.

ويركز البعد كذلك على القدرات المتوافرة، بما يتضمن العمالة الماهرة، والمهارات المالية، والمهارات الإدارية لأصحاب القرار، وغير ذلك.
حصلت المملكة في مجمل مؤشرات خصائص مشهد نبوغ الدول، أو بالأحرى في دليل تقييم نبوغ الدول، المطروح فيما سبق، على المرتبة 30، لكنها حازت المرتبة 20 في مجمل مؤشرات خصائص بعد "الجاذبية".

وعلى الرغم من أن الدليل المطروح قد لا يعطي مشهد نبوغ الدول مصداقية كاملة، إلا أنه يقدم على الأقل جزءا مهما منها، يستحق الاهتمام والدراسة، والسعي إلى التطوير في المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي