الاقتصادات المتقدمة وتحدي المخاطر الرئيسة «2 من 3»
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يحتاج نموذج السياسات الاقتصادية إلى مزيد من الإصلاح؟ والأهم من ذلك كله، هل يتطلب تحقيق الاستقرار توطيد التنسيق والمشاركة فيما بين مؤسسات صنع القرار داخل الدول وعلى المستوى الدولي؟ وإن كان الأمر كذلك، كيف يمكن لهذا التنسيق أن يؤتي ثماره؟
والواقع أننا لا نملك أجوبة كافية، لكن هناك دروسا مهمة يمكن استخلاصها من النظريات والتاريخ نرى أن بإمكانها المساعدة على تنظيم طريقة تفكيرنا.
وبشأن الحديث عن عودة ظهور "مزيج السياسات" ففي النظريات الاقتصادية الكلاسيكية، تتضح خطوات عمل مزيج السياسات في نموذج "المخروط" الذي ابتكره الاقتصادي جيمس توبين، الحائز جائزة نوبل، حيث تنشأ الدفعة التنشيطية من مصدرين، هما M "السياسة النقدية" وF "السياسة المالية"، لكن المبلغ الذي يتدفق إلى الاقتصاد مستقل عن المساهمة النسبية لكليهما. فالدفعة التنشيطية الكلية نفسها "أي الطلب الاسمي" يمكن أن تتولد عن طريق إرخاء الجانب النقدي وتشديد الموازنة ـ أو العكس. وترتفع القيمة الاجتماعية لإجراءات التوسع المالي المضادة للاتجاهات الدورية لتصل أعلى مستوياتها حيثما تكون أسعار الفائدة الأساسية متوقفة عند حدها السفلي الفعلي، وبقاء التضخم على نحو مزمن دون الهدف المحدد. ومن ثم فإن الحفاظ على وفرة الحيز المالي اللازم لتحقيق أهداف الموازنة في مثل هذه الأوضاع هو مطلب أساس لفاعلية تحقيق الاستقرار. وهذا هو ما يحفز الادخار التحوطي في الموازنة ـ بالسيطرة على الإنفاق و/أو الحفاظ على الإيرادات الضريبية ـ أثناء المرحلة التوسعية في الدورة الاقتصادية.
وتوضح النظريات الحديثة رؤية جديدة لكيفية اشتراك تفاعلات السياسة المالية F والسياسة النقدية M في تحقيق الاستقرار في اقتصاد مهدد بالدخول في دوامة الانكماش. ومع بقاء أسعار الفائدة عند الحد السفلي الفعلي، عندما يتسبب الطلب المنخفض في الانكماش، يترتب على ذلك ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية، ما يزيد من كبح الطلب. ولتجنب الدخول في هذه الدوامة، لنفترض أن السلطات المالية رفعت مستويات العجز بصفة مؤقتة، ولم تلتزم بزيادة الضرائب ولا خفض الإنفاق. ومؤدى ذلك، في حالة تساوي جميع العوامل الأخرى، أنها لن تتمكن من إبقاء الدين في حدود يمكن تحملها واحتمال بدء الأسواق المالية فرض علاوة مخاطر على أسعار الفائدة. ومع ذلك، لنفترض أنه في ظل مستويات العجز هذه التزم البنك المركزي، بصفة مؤقتة أيضا، بضمان القيمة الظاهرية لالتزامات الحكومة القائمة بالقيمة الاسمية "بهدف استبعاد مخاطر العجز التام عن السداد"، وأنه لم يتحرك لمواجهة أي تغيير في التضخم. وبذلك يكون البنك المركزي بحكم الواقع قد سمح بتعرض الاقتصاد لطفرة حادة في مستويات العجز. وشريطة عدم توقع القطاع الخاص هذه السياسات و/أو كان أجل استحقاق التزامات الحكومة الاسمية القائمة طويلا بالقدر الكافي، فإن ما يتبع ذلك من ارتفاع مستوى الأسعار سيخفض القيمة الحقيقية للدين العام، على نحو يتماشى مع القيمة المخصومة الحالية للفوائض الأولية.
وجدير بنا أن ننظر في مدى تعقيد هذه الاستراتيجية. فنجاحها متوقف على فكرة أن السلطات النقدية والمالية، في ظروف خاصة، قد تفيد من العمل معا على نحو غير سليم على وجه الخصوص في الظروف العادية. فالميزانية توجد دينا لا يمكن الاستمرار في تحمله، والبنك المركزي بحكم الواقع يقوم بتنقيد هذا الدين. غير أنه لكي ينجح هذا المزيج من السياسات لا بد أن يكون تعليق العمل بقواعد السلوك السليم بصفة مؤقتة ومقتصرا على الظروف الاستثنائية. وهذا ليس بالأمر الهين، فالسياسة الاقتصادية لا تنجح إلا إذا كانت القواعد الدستورية صارمة والمؤسسات النقدية والمالية قوية ومستقلة. غير أنه جدير بالذكر أنه يفترض نجاح هذه السياسة في المسار المعاكس، أي أنه باستخدام الآلية ذاتها، من شأن تحقيق فوائض الميزانية الذي يزيد القيمة الحقيقي للدين أن يساعد على خفض التضخم.
نتيجة للأسباب الموضحة أعلاه، نجد أن تحقيق الاستقرار في الأسعار وعلى المستوى المالي والاقتصادي الكلي يشكل مطلبا مشتركا حاسما على السياسة النقدية والمالية العامة. فلا بد للبنوك المركزية أن تسعى إلى تحقيق استقرار الأسعار في الأجلين المتوسط والطويل. ولا بد أن تضمن السلطات المالية استدامة القدرة على تحمل الدين، بحيث تقوم بتعديل سياساتها بما يتسق مع أهداف التضخم التي وضعها البنك المركزي، وفي الواقع العملي، ينبغي أن تعمل الحكومة على نحو موثوق بزيادة الفائض الأولي الهيكلي ـ وبالكثافة الكافية ـ كرد فعل لأي ارتفاع في رصيد الدين .. يتبع.