محادثات مثمرة لرفع سقف الدين الأمريكي دون اتفاق .. من يتنازل أولا؟
استأنف الرئيس الأمريكي جو بايدن محادثاته مع الجمهوريين في الكونجرس بهدف التوصل إلى اتفاق يجنب الولايات المتحدة التخلف عن سداد مستحقات ديونها، وسط تحذيرات وزارة الخزانة من نفاد أموال الخزينة العامة بعد الأول من حزيران (يونيو). يؤكد بايدن باستمرار أن تداعيات التخلف عن السداد ستكون "كارثية"، ويحث الجمهوريين على الموافقة على زيادة "نظيفة" في سقف الاقتراض العام قبل الأول من الشهر المقبل.
لكن الجمهوريين يشترطون أن يوافق بايدن على خفض كبير في نفقات الميزانية مقابل موافقتهم على رفع سقف الدين.
لكن ماذا يحصل في الولايات المتحدة وحول العالم إذا فشلت واشنطن في رفع سقف دينها العام.
تداعيات الأسواق المالية
يتوقع محللون أن تعاني أسواق الأسهم الأمريكية صدمة حادة مؤقتة في حال عجزت وزارة الخزانة الأمريكية عن الوفاء بجميع التزاماتها المالية.
إلى جانب تراجع الأسهم الأمريكية، قد ترتفع أسعار الفائدة خصوصا عوائد سندات الخزانة ومعدلات الرهن العقاري، حسبما يقول برنارد ياروس الخبير الاقتصادي لدى وكالة "موديز أناليتيكس" لـ"الفرنسية".
ويضيف "قد يؤدي ذلك إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض بالنسبة إلى المستهلكين والشركات".
ويوضح ياروس أن الأسر أو الشركات التي لن تتسلم في هذا الحال المدفوعات الفيدرالية المستحقة قد تحجم عن الإنفاق على المدى القريب بسبب خسارتها للدخل، فيما قد تتراجع ثقة المستهلك، ما سيضر بالاقتصاد.
لكن من المتوقع أيضا أن تكون الصدمات قصيرة الأجل، إذ يرجح أن يستجيب السياسيون بقوة على أي رد ملحوظ في السوق.
ويقول نايثان شيتس كبير الخبراء الاقتصاديين لدى مصرف سيتي جروب: "أتوقع أيضا أن تعود الأسواق إلى طبيعتها بمجرد التوصل إلى اتفاق".
ويضيف "لا أعتقد أن هذه الحلقة ستكون طويلة إلى حد تسجيل توقعات منخفضة لإجمالي الناتج المحلي".
التداعيات على الحكومة الأمريكية
حتى إذا فوتت الولايات المتحدة المهلة التي تنفد بعدها أموال الخزينة العامة، سيظل أمامها خيارات.
على سبيل المثال، سيكون بإمكان الحكومة الأمريكية اختيار إعطاء الأولوية لسداد الديون وتأخير مدفوعات أخرى، مثل المدفوعات المخصصة للوكالات الفيدرالية وللمستفيدين من الضمان الاجتماعي ولمقدمي خدمات الرعاية الطبية.
هذا هو السيناريو الأكثر ترجيحا، بحسب ويندي إدلبرج الزميلة في الدراسات الاقتصادية في مؤسسة "بروكينجز" للبحوث.
خلال مواجهة مماثلة حول سقف الدين العام في عام 2011، وضع مسؤولو الخزانة خطط طوارئ لمنع التخلف عن سداد سندات الخزينة ولضمان استمرار الخزانة في دفع الفائدة على تلك السندات عند استحقاقها.
تستبعد إدلبرج حصول إغلاق حكومي، رغم احتمال تأجيل رواتب الموظفين الحكوميين.
التداعيات على الاقتصاد العالمي
حتى لو انقضت المهلة المحددة أمام واشنطن لكن استمرت في السداد للمستثمرين، يرجح أن تنتشر عواقب الفشل السياسي في التوصل إلى اتفاق في الأسواق العالمية.
ويقول بول فان دي فاتر الزميل في مركز بحوث الميزانية وأولويات السياسات في الولايات المتحدة في مدونة إن فشل الحكومة في سداد جميع مستحقاتها "قد يثير شكوكا جدية حول الجدارة الائتمانية للدولة ويقوض ثقة المقرضين ويشكك في مكانة الدولار كعملة احتياطية ويزيد تكاليف الاقتراض الفيدرالي".
ويضيف "في ظل الظروف الراهنة، حتى التهديد الخطير بتخلف الولايات المتحدة عن السداد قد يكون كافيا لإحداث اضطراب في الأسواق وإلحاق مزيد من الضرر بالاقتصاد العالمي".
في حال التخلف، ستكون التداعيات كبيرة، بحسب إريك دور مدير قسم الدراسات الاقتصادية في كلية إدارة الأعمال في جامعة IESEG الفرنسية.
ويقول دور "سترتفع، بشكل حاد، أسعار الفائدة التي يفرضها المستثمرون على السندات التي تصدرها الولايات المتحدة".
ويتابع "هذه الزيادة في تكلفة الائتمان ستؤدي إلى انخفاض في الاستثمارات في الأعمال التجارية والأسر وكذلك في الاستهلاك، وبالتالي سيحدث ركود حاد في الولايات المتحدة"، موضحا أن هذه الزيادة قد تتسبب أيضا في ركود في أوروبا وأماكن أخرى.
وكتبت جين روس من "مركز التقدم الأمريكي" في مقال نشر أخيرا إن "من شأن التخلف عن السداد أن يزعزع استقرار النظام المالي العالمي الذي يعتمد على استقرار الدولار باعتباره أصلا آمنا في العالم وعملة أولية في الاحتياطي".
وأضافت "يمكن أن تكون لفقدان الثقة بالدولار تداعيات بعيدة المدى على الاقتصاد والسياسة الخارجية، إذ إن الدول الأخرى، خصوصا الصين، ستستخدم التخلف الأمريكي عن السداد لدفع عملتها الخاصة لتصبح بمنزلة أساس التجارة العالمية".
هل ينخفض تصنيف ديون الولايات المتحدة؟
مع اقتراب المهلة، يراقب المستثمرون بقلق وكالات التصنيف بحثا عن إشارات إلى احتمالية خفض التصنيف الائتماني لديون الولايات المتحدة. في عام 2011، دفعت مواجهة مماثلة حول سقف الديون إلى تخفيض وكالة "ستاندرد آند بورز" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من أعلى درجة، ما أثار غضب الديمقراطيين كما الجمهوريين.
حتى إذا وصلت الولايات المتحدة إلى سقف الديون لكنها استمرت في دفع فواتيرها، يرجح أن تأخذ وكالات التصنيف ملاحظة في ذلك، بحسب نايثان شيتس من "سيتيجروب"، ما يؤكد الحاجة إلى اتفاق تفاوضي مسبق.
ويقول شيتس "إن المناقشات حول ما إذا كنتم ستدفعون بشكل دوري أم لا ليست في العادة ميزة قد تربطها بتصنيف ائتماني أعلى".
محادثات "مثمرة" لكن لا اتفاق بعد
قبل عشرة أيام من بلوغ الدين العام الأمريكي السقف المحدد له قانونا، عقد الرئيس جو بايدن الإثنين اجتماعا "مثمرا" مع رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي لكن من دون أن يتوصلا بعد إلى اتفاق يجنب الولايات المتحدة التخلف - لأول مرة في تاريخها - عن سداد مستحقات ديونها.
وقال بايدن في بيان "لقد انتهيت لتوي من اجتماع مثمر" مع زعيم المعارضة الجمهورية، داعيا إلى إجراء مفاوضات "بحسن نية" للتوصل إلى اتفاق. وأقر الرئيس الديمقراطي باستمرار "الخلافات" التي يتعين على فريقيهما التفاوضيين حلها خلال بضعة أيام فقط.
وجددت جانيت يلين وزيرة الخزانة الإثنين التحذير من أنه من "المرجح جدا" أن تنفد أموال الخزينة العامة بعد الأول من حزيران (يونيو).
وفي أعقاب اجتماعهما الثنائي في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، قال مكارثي للصحافيين "لقد شعرت أننا أجرينا محادثات بناءة. ليس لدينا اتفاق بعد، لكنني شعرت أن النقاش كان بناء في مجالات لدينا فيها اختلافات في الرأي".
وأضاف أن الأجواء التي سادت الاجتماع "كانت أفضل من كل المرات السابقة"، معترفا في الوقت ذاته بوجود اختلافات جوهرية بينهما بشأن رفع سقف الدين العام.
ولم يتبق أمام الولايات المتحدة سوى عشرة أيام لرفع سقف الدين العام أو تعليق العمل به، وذلك تحت طائلة تخلفها عن سداد مستحقات ديونها.
سباق مع الزمن
تخوض الإدارة الديمقراطية والمعارضة الجمهورية سباقا مع الوقت لتجنب احتمال تخلف الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها بعد الأول من حزيران (يونيو).
ويشترط الجمهوريون أن يوافق بايدن على خفض كبير في نفقات الميزانية مقابل موافقتهم على رفع سقف الدين، فيما يتهمهم الديمقراطيون باستخدام تكتيكات لدفع أجندتهم السياسية، معرضين الاقتصاد الأمريكي للخطر.
ومع أن رفع سقف الدين عملية روتينية عادة، إلا أنها أصبحت في الأعوام الأخيرة محور خلاف مع المشرعين الجمهوريين الساعين إلى الحصول على تقليص للإنفاق في مقابل رفع السقف. وكتب رئيس مجلس النواب الجمهوري على تويتر "موقفي لم يتبدل. لا يمكن لواشنطن مواصلة إنفاق مال لا نملكه. سنلتقي غدا شخصيا لمواصلة المفاوضات".
وحذر بايدن في تغريدة من أنه سيرفض اتفاقا "يحمي مليارات (الدولارات) من الإعانات للشركات النفطية الكبرى ويعرض للخطر الرعاية الصحية لـ21 مليون أمريكي، أو يحمي أغنياء الاحتيالات الضريبية ويعرض للخطر المساعدات الغذائية لمليون أمريكي". وليس أمام الفريقين سوى أقل من تسعة أيام للتوصل إلى اتفاق والسماح للولايات المتحدة بمواصلة سداد ما يجب عليها.
وفي حال عدم التوصل إلى اتفاق، فإن البلاد ستكون في حالة تخلف عن السداد غير مسبوقة وتنطوي عليها تداعيات قد تكون كارثية للاقتصادين الأمريكي والعالمي.
وحذرت وزارة الخزانة من عواقب وخيمة إذا نفد النقد من الدولة لسداد استحقاقاتها، ما سيجعلها عاجزة عن دفع رواتب الموظفين الفيدراليين ويؤدي إلى ارتفاع محتمل في أسعار الفائدة مع آثار غير مباشرة في الشركات والرهون العقارية والأسواق العالمية.
من سيتنازل أولا؟
الرئيس الأمريكي الذي يعرف جيدا أن هزيمة اقتصادية محتملة، أيا كان مصدرها السياسي، من شأنها أن تهدد فرصه في إعادة انتخابه؟ أو مكارثي الذي يعتمد موقفه على حفنة من أعضاء الكونجرس الراديكاليين الذين يدعونه، كما يفعل الرئيس السابق دونالد ترمب، إلى "عدم الانصياع"؟
كذلك، فإن الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي يدفع أيضا بايدن إلى عدم الرضوخ واللجوء إلى المادة الـ14 التي أضيفت إلى الدستور الأمريكي في 1868، وتنص على أن "صلاحية الدين العام للولايات المتحدة المسموح به بموجب القانون .. يجب ألا تكون موضع شك" أي بعبارة أخرى النفقات التي أقرت بالتصويت يجب أن تحترم.
وذلك يعني أن الرئيس الأمريكي سيتصرف كما لو أن سقف الديون غير موجود. ويدرس بايدن هذا الاحتمال المحفوف بالمخاطر القانونية خصوصا حين يكون في مواجهة محكمة عليا تميل بشدة إلى اليمين.
وبعد ثلاث جولات من المباحثات المباشرة بين بايدن ومكارثي، يجري التداول باقتراحات عدة للخروج من المأزق. وهنا يتساءل المحللون: من يتنازل أولا؟ وفي الواقع فإن الولايات المتحدة وصلت قبل أشهر عدة إلى "سقف الدين العام" الذي يزيد على 31 تريليون دولار (الأعلى على الإطلاق في العالم)، لكن الحكومة الفيدرالية تمكنت حتى الآن من إدارة الموقف بفضل مناورات محاسبية.
صندوق النقد الدولي
قالت كريستالينا جورجييفا مديرة صندوق النقد الدولي أمس إنها تأمل ألا يضطر الاقتصاد العالمي إلى الانتظار حتى اللحظات الأخيرة حتى يجري التوصل إلى حل لأزمة سقف الدين الأمريكي.
وأضافت في مؤتمر صحافي في لندن "نأمل ألا نضطر إلى الانتظار كل هذا الوقت".