«المركزي الأوروبي» .. فريق إطفاء أزمات يصارع من أجل استقرار اليورو
أثبت البنك المركزي الأوروبي في الأعوام الماضية قدرته على التصرف، حيث تمكن من اجتياز أزمات مثل الأزمة المالية وأزمة الديون وأزمة كورونا، ولا يزال البنك بعد مضي 25 عاما على تأسيسه يصارع من أجل تحقيق هدفه المحوري ألا وهو تحقيق استقرار اليورو، العملة الأوروبية الموحدة.
قبل تسعة أعوام أشادت كريستين لاجارد الرئيس الحالي للبنك المركزي الأوروبي المدير السابق لصندوق النقد الدولي، بمسؤولي البنك المركزي الأوروبي ووصفتهم بأنهم "أبطال الأزمة". وبحكم منصبها الحالي على رأس المركزي الأوروبي أصبحت السياسية الفرنسية نفسها مديرة للأزمات.
وتحل في مطلع حزيران (يونيو) المقبل الذكرى السنوية الـ25 لتأسيس البنك المركزي الأوروبي وهو يصارع حاليا التضخم المرتفع باستمرار من أجل تحقيق هدفه شديد الخصوصية وهو استقرار اليورو لملايين المواطنين في 20 دولة تطبق العملة الأوروبية الموحدة.
بدأ تاريخ البنك المركزي الأوروبي في صيف عام 1998 بالتوصل إلى حل توافقي أوروبي نموذجي، وهو عدم إسناد رئاسة البنك المركزي المشترك الجديد الذي يقع مقره في مدينة فرانكفورت الألمانية إلى شخصية من ألمانيا أو فرنسا، وهما أكبر اقتصادين في منطقة اليورو، بل تم إسناد هذا المنصب إلى الهولندي فيم دويزنبرج.
وبغض النظر عن الصراع الذي دار على المناصب الكبرى في المصرف، فإن الأوروبيين تمكنوا من خلال تأسيسه من تنفيذ واحد من أهم المشاريع في تاريخهم الاقتصادي بأسلوب عقلاني للغاية.
وفي 25 أيار (مايو) 1998 عينت حكومات الدول الـ11 الأعضاء في منطقة اليورو رئيس البنك المركزي الأوروبي ونائبه والأعضاء الأربعة الآخرين في المجلس التنفيذي للبنك. ودخل تعيينهم حيز التنفيذ بحلول أول حزيران (يونيو) 1998 إيذانا بقيام البنك.
بدوره، لم يترك دويزنبرج الرئيس التأسيسي للبنك المركزي الأوروبي مجالا للشك حول المقصد الذي يعني المؤسسة الوليدة في المقام الأول ألا وهو نيل ثقة المواطنين بأن العملة الموحدة ستكون على درجة الاستقرار نفسها التي كان يتمتع بها قبلها المارك الألماني، والفرنك الفرنسي، والجولدن والخولده الهولندية، وغيرها.
وكتب دويزنبرج لمحافظي البنوك المركزية المستقلين في كتب الضيوف لرؤساء البنوك المركزية في دول اليورو "اليورو عملتكم، وبمقدوركم أن تثقوا بأنه سيحافظ على قيمته"، بحسب "الألمانية".
وفي الماضي القريب كان البنك المركزي الأوروبي على موعد مع مهمة صعبة جديدة، وذلك عندما أخذ معدل التضخم في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 في التسارع ليصل إلى قيمة قياسية بـ10.6 في المائة، وهي قيمة شديدة البعد عن هدف الـ2 في المائة الذي يسعى البنك المركزي الأوروبي إلى تحقيقه على المدى المتوسط من أجل استقرار اليورو. وواجه البنك هذا التطور بسلسلة من رفع لأسعار الفائدة.
ومع ذلك استمر ارتفاع معدل التضخم مدفوعا بالدرجة الأولى بارتفاعات أسعار الطاقة والمواد الغذائية في أعقاب وقوع الحرب الروسية - الأوكرانية، الأمر الذي جعل مسؤولي البنك المركزي يسألون أنفسهم مرارا بشكل نقدي حول ما إذا كانوا قد تمسكوا لفترة أطول من اللازم بسياسة الأموال الرخيصة التي شملت شراء سندات حكومية بمليارات اليوروهات بعد الأزمة المالية في 2008/2007.
وعلى الصعيد الداخلي، واجه البنك صعوبات تمثلت في وجود خلل في التصميم في وحدة العملة، ويرجع ذلك الخلل إلى أن الأوروبيين طبقوا عملة مشتركة دون أن تكون لديهم سياسة مالية ونقدية مشتركة.
وكان أوتمار إيسينج كبير الاقتصاديين السابق في البنك المركزي الأوروبي قد قال في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 إن عدم تجانس دول اليورو -وبالتالي اختلاف مصالحها- يمثل مشكلة هائلة بالنسبة إلى السياسة النقدية المشتركة.
ومع أنه لا يتعين على محافظي البنوك المركزية الوطنية أن يمثلوا المصالح الوطنية داخل مجلس البنك المركزي الأوروبي، فإن إيسينج يرى أنه "عندما يلعب شراء السندات الحكومية مثل هذا الدور المهيمن في سياسة البنك المركزي الأوروبي، عندئذ سيصبح من الصعب للغاية تنحية المصالح الوطنية جانبا".
وكثيرا ما تعرضت سياسة البنك المركزي الأوروبي لانتقادات ولا سيما من ألمانيا.
وعلى سبيل المثال كان فرانك شيفلر المختص بالسياسة المالية في الحزب الديمقراطي الحر الشريك في الائتلاف الحاكم الحالي في ألمانيا قد قال في صيف 2011 "إذا استمر البنك المركزي الأوروبي على هذا النحو، فإنه قريبا سيشتري دراجات قديمة أيضا ويصدر نظير ذلك أوراقا نقدية جديدة".
وكانت المحكمة الدستورية الاتحادية في ألمانيا قد نظرت مرارا في قرارات للبنك المركزي الأوروبي، لكن إجراءات التقاضي هذه كانت دائما ما تأتي بعد أن تكون هذه القرارات أوجدت حقائق على الأرض منذ فترة طويلة. وربما كان الإيطالي ماريو دراجي الذي سبق لاجارد في رئاسة البنك المركزي الأوروبي هو أكثر من أظهر على نحو معبر للغاية مدى التأثير الكبير الذي يتمتع به البنك، وكان دراجي وعد في الـ26 من تموز (يوليو) 2012 بأن "البنك سيفعل كل ما يلزم من أجل إنقاذ اليورو".
وأضاف: "مهما كلف الأمر". وقد أدى هذا القرار الفوقي القاطع للرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي إلى استقرار منطقة اليورو في أعمق أزمة في التاريخ الحديث للبنك عندما فشلت الحكومات في اتخاذ قرارات سريعة، وهذا ما شهد به لدراجي حتى منتقدوه.
وسواء كانت الأزمة هي أزمة مالية، أو أزمة ديون، أو أزمة جائحة كورونا، فإن البنك المركزي الأوروبي الذي عمل كفريق إطفاء أزمات أظهر إبداعا في استخدام الوسائل المضادة في مواجهة مثل هذه الأزمات.
وتفنن مسؤولو البنك في إعداد برامج مختلفة لشراء السندات من برنامج (أو إم تي) -المعاملات النقدية الصريحة - وبرنامج (أيه بي بي) - شراء الأصول - وبرنامج (بي إي بي بي) - شراء الطوارئ الوبائية - وأمدوا البنوك بقروض رخيصة وخفضوا سعر الفائدة إلى مستوى قياسي بـ"صفر في المائة" وفرضوا فوائد سلبية على الودائع بالشكل الذي جعل المصارف تشكو من الفوائد العقابية وجعل المدخرين يشعرون بأن ودائعهم عرضة للمصادرة.
وها نحن الآن نشهد الصراع مع التضخم ومخاوف عديد من الناس من عدم كفاية ما لديهم من مال لنفقاتهم الضرورية.
وأكدت إيزابيل شنابل عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي في الخريف الماضي أن " الناس بمقدورهم الاعتماد على البنك المركزي الأوروبي في عودة التضخم إلى الانخفاض مرة أخرى". وقالت: "سنؤدي مهمتنا وسنعمل من أجل استقرار الأسعار".