الذكاء الاصطناعي يقرع أبواب العالم
يشهد العالم تقدما مطردا في موضوعات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مختلف المجالات، ويبدو هذا التقدم وكأنه يقرع أبواب العالم مبشرا بثورة صناعية خامسة، تقدم وسائل ذكية ومفيدة وغير مسبوقة من ناحية، ومؤكدا في الوقت ذاته أيضا، أن وسائل هذه الثورة ستقود إلى عالم جديد يختلف عما اعتاد الإنسان المعاصر عليه من ناحية أخرى. ولعلنا نذكر أن مثل ذلك قد حدث في الماضي، وتكرر مرات عبر الزمن. ففي القرن الـ18، قرعت الآلة البخارية أبواب العالم لتبدأ الثورة الصناعية الأولى، وتغير في كثير من معطيات الحياة. ثم فعلت تقنيات أخرى مثل ذلك لتتوالى هذه الثورات، وصولا إلى ما نحن عليه اليوم في الثورة الصناعية الرابعة، وتوقعات استقبالنا الخامسة.
واليوم نجد أمامنا الذكاء الاصطناعي مجددا لما سبقه، لكن بمعطيات تتمتع بإمكانات ذات طبيعة خاصة تقدم خدمات قريبة من الخيال. وكمثال على ذلك، تحدثنا في مقال سابق، نشر على هذه الصفحة في التاسع من شباط (فبراير) 2023، عن برنامج ChatGPT ومعطياته. وعلى الرغم من الفوائد الجمة التي يجنيها الإنسان من مثل هذه المعطيات، إلا أنها تحاول مزاحمته في عديد من المهن والأعمال التي يقوم بها، إضافة إلى مشكلة إمكانية تسخيرها لغايات غير محمودة. وانطلاقا من ذلك نرى أصحاب الرأي، أمام الذكاء الاصطناعي، حيارى بين أحلام وردية سيحققها هذا الذكاء عبر معطياته المتميزة، وبين كوابيس تهدد سوق العمل، وبالتالي حياة الإنسان، إضافة إلى احتمال إفرازها أخطارا لا تحمد عقباها.
بين هذا الأمر وذاك، نجد الذكاء الإنساني ساعيا إلى العقلانية في التعامل مع معطيات التقدم في الذكاء الاصطناعي، الذي يقرع أبواب العالم، وذلك عبر السعي إلى بناء الجاهزية اللازمة التي تستطيع الاستفادة من فوائده، إضافة إلى الحد من مخاطره. وتمثل هذا الأمر، بصورة خاصة، في توجهين اثنين يتسمان بالتكامل. في إطار التوجه الأول، بدأ بعض الدول ومنذ 2017 بوضع خطط مستقبلية لتطوير الذكاء الاصطناعي والتعامل بكفاءة وفاعلية مع تطبيقاته، وقد تحدثنا عن هذه الخطط في مقال على هذه الصفحة في الـ15 من تموز (يوليو) 2021. وقد كانت المملكة بين هذه الدول، حيث صدرت "الاستراتيجية الوطنية السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي" في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، وكان لنا حديث حول هذه الاستراتيجية على هذه الصفحة في الـ22 من يوليو 2021. تجدر الإشارة هنا إلى أن عدد الدول التي باتت لديها حاليا خطط للذكاء الاصطناعي بلغ 62 دولة، طبقا لتقرير دولي صدر هذا العام.
ونأتي إلى التوجه الثاني، في مجال الجاهزية للذكاء الاصطناعي، وهو موضوعنا هنا. يتمثل هذا التوجه في سعي بعض المؤسسات المتخصصة إلى وضع معايير لتقييم جاهزية الدول للذكاء الاصطناعي، والقيام بتطبيق هذه المعايير على الدول المختلفة وتصنيفها على هذا الأساس. وغاية ذلك هي اكتشاف مكامن قوة الدول ومواطن ضعفها في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، لأن في ذلك توجيها لها نحو تعزيز جاهزيتها لهذا الذكاء، عبر تطوير خططها في حال توافر هذه الخطط، أو وضع خطط جديدة على أسس معرفية مدروسة.
شملت مؤسسات هذه المعايير ثلاث جهات رئيسة، أبرزها جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة التي وضعت دليلا لتقييم حالة الذكاء الاصطناعي في دول العالم، يعرف بـ"دليل الذكاء الاصطناعي المرتبط بالإنسان HAI"، وتصدر الجامعة تقريرا دوريا حول تقييمها للدول المختلفة على أساس مؤشرات هذا الدليل. وتتضمن هذه الجهات أيضا "مؤسسة السلحفاة الإعلامية التي تصدر أيضا تقريرا مماثلا حول دليل آخر خاص بها يعرف بـ"الدليل العالمي للذكاء الاصطناعي". ثم هناك الجهة المعروفة "بتصورات أكسفورد التي تصدر كسابقتيها تقريرا سنويا حول دليلها الذي يحمل عنوان "دليل الجاهزية الحكومية للذكاء الاصطناعي".
ربما تكون هناك جهات أخرى تصدر تقارير أخرى حول أدلة موازية تهتم بشؤون الذكاء الاصطناعي، لكن أدلة هذه الجهات تبدو وكأنها الأكثر انتشارا في هذا المجال. وسنتعرف فيما تبقى من هذا المقال على الأعمدة المعرفية الرئيسة التي يستند كل من هذه الأدلة إليها.
إذا بدأنا بدليل "ستانفورد"، فنجد أن لمعاييره ثمانية أعمدة، أولها عمود البحث والتطوير في مجالات الذكاء الاصطناعي ومعطياته، ثم عمود الأداء التقني فيما يتعلق بالاستفادة من هذه المعطيات، فعمود أخلاقيات استخدامها. ويضاف إلى ذلك عمود الاقتصاد وأثر الذكاء الاصطناعي فيه وتأثره به، ثم عمود متطلبات التعليم، فعمود السياسات والحوكمة ذات العلاقة. ويأتي بعد ذلك عمود توخي التعددية والمساواة في التعامل مع معطيات هذا الذكاء، إضافة أخيرا إلى الحرص على الاستجابة إلى آراء الناس وأصحاب العلاقة في شؤون الذكاء الاصطناعي، وما يجري أو يجب أن يجري بشأنها.
وننتقل إلى الدليل العالمي للذكاء الاصطناعي الذي يتمتع بثلاثة أعمدة رئيسة، ترتبط بأعمدة فرعية. فهناك عمود الابتكار الذي يتضمن البحث ومعه التطوير كعمودين فرعيين له، وكذلك عمود الاستثمار الذي يشمل فرعين أيضا هما المشاريع واستراتيجية الدولة، ويأتي عمود التنفيذ بعد ذلك ليحتوي على ثلاثة أعمدة فرعية هي النبوغ الإنساني، والبنية الأساس، إضافة إلى بيئة العمل.
ونأتي إلى دليل الجاهزية الحكومية للذكاء الاصطناعي الذي يستند إلى ثلاثة أعمدة، لكل منها عدد من المضامين. هناك عمود الدولة الذي يتضمن رؤيتها، ومعايير السلوكيات المطلوبة فيها، وإمكاناتها الرقمية، ومرونة استجابتها للمتغيرات، وهناك عمود التقنية المرتبط بقدراتها التقنية، وإمكاناتها البشرية، ومكامنها الابتكارية. ثم هناك العمود الثالث المختص بشؤون البيانات وإمكانات البنية الأساس.
تشترك الأدلة الثلاثة في بعض المضامين، وتختلف في بعضها الآخر، لكن جميعها يرتبط بشؤون الذكاء الاصطناعي ومتطلبات التعامل معه، بما يحقق الاستفادة من معطياته، والحد من تحدياته. ولا شك أن من المفيد جمع كل هذه المضامين في إطار دليل متكامل جديد يكون أكثر فائدة للمستقبل. وسنطرح مزيدا حول هذا الموضوع في مقالات مقبلة بمشيئة الله.