«كود» نابليون.. والحلول محل الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة

كان من نتائج «التنظيمات» التي فرضتها الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر الميلادي على الدولة العثمانية، الأخذ بقانون «كود» نابليون، ليحلّ محل الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة، والنظر في القضايا في محاكم مستقلة عن المحاكم الشرعية، وقد أخذت دول إسلامية أخرى مثل تونس وإيران، بهذا التوجّه لتلتحق بركب الحضارة الغربية، أو لتتّقي شرّ تلك الدول التي كانت تعيش قمّة نشوتها الاستعمارية، بعد أن أخضعت أكثر من بلد إسلامي لسلطانها المباشر. وكانت روسية القيصرية، منذ عام 1784م، قد تمدّدت على حساب البلاد الإسلامية المجاورة لها، من سواحل البحر الأسود شرقاً إلى بحر قزوين، ومنه عبر بحر آرال – الذي تبخّر – إلى حدود منغوليا شرقاً.
وعندما سقطت الدولة العثمانية، وقبلها انهارت دولة المغول في الهند، قامت الدولة الحديثة، واعتمدت معظمها، مُرغمَةً، النظم الدستورية التي أبقت مهمة الشريعة مقتصرة على الأحوال الشخصية، ولكن مع تفاقُم أزمة عام 1973م، ووقف ضخّ البترول عن الغرب على يد الملك فيصل بن عبد العزيز، وما تلا ذلك من ارتفاع أسعاره في السوق الدولي، وقد سبق ذلك كله هزيمة حزيران عام 1967م، أصبحت هناك حاجة إلى المراجعة، فلقد تراجع الفكر العلماني ومثله النهج القومي، ليس فقط في البلاد العربية، بل أيضاً في عديد من البلاد الإسلامية، وبالأخص في الإمبراطورية الإيرانية التي تهاوت أمام الثورة التي قادها الخميني وكانت النتيجة الحتمية التي ترتّبت على ذلك مبادرة القيادات السياسية السنيّة لطرح فكرة التقريب بين المذاهب، ففوجئت هذه القيادات بأن إيران قد أقامت مؤسسة لهذا الغرض، ما جعل أصحاب المبادرة يضطرون إلى التعامل مع المؤسسة الإيرانية.
الذي يهمّنا هنا أن نُذكِّر بموقف الناس العاديين تجاه المؤسسات المصرفية، من البنوك ودور الصيرفة والاستثمار، لأن المسلم يبقى حائراً بين الحلال والحرام، فقد وجدت منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي أفكار تدعو إلى أسلمة الاقتصاد، وإقامة مصارف على أُسس إسلامية بعيدة عن الربا، ومثل ذلك شركات للتأمين وشركات للمُزارعة والمُتاجرة والإعمار وما إلى ذلك, وقد نشأ بعضها على المستوى الأهلي، مثل شركة الريّان في مصر التي فشلت، ولكن بقيت المحاولات مستمرة، وقد أثبتت المؤسسات المالية الإسلامية وجودها ودخلت الأسواق العالمية، حتى إن البنوك الأوروبية والأمريكية فتحت فروعاً لها في بنوكها للتعامل مع زبائنها على أسس إسلامية، أضف إلى ذلك، أن هذه البنوك وجدت ، من خلال هذا التعامل، أن الوصول إلى رأس المال العربي في المحافظ السيادية وغيرها واستدراجه إلى الأسواق الغربية سيكون أيسر لها ، وبخاصة بعد الضربة الكبرى التي مُنيت بها المؤسسات المالية الأمريكية والغربية في أواخر العام الماضي، بسبب انهيار سوق العقارات.
وأثبت النظام الرأسمالي أنه ليس أفضل من النظام الاشتراكي، بل إن الدول الرأسمالية خرجت عن فلسفتها وضخّت الأموال الهائلة لإنقاذ المؤسسات المالية والعقارية والشركات الصناعية، كل هذه الأسباب كانت كافية لدعوة الفقهاء وأهل الاختصاص في العلوم الإسلامية، من تفسير وحديث وفتوى واجتهاد، والمختصين في كتب التراث، على اتساع دلالة هذا المصطلح، للعودة إلى هذه المصادر ومحاولة استخراج المصطلح الاقتصادي منه مع قرينته، ليس بنيّة التعريف التاريخي بذلك، بل لتوفيرها المجالس الفقهية للإفادة منها لاستنباط الأحكام الشرعية التي تحقق الغاية الشرعية وتُخرج المسلم من حيرته في معرفة الحلال من الحرام.
في إطار ذلك, قامت مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامية (مكتبة صالح عبد الله كامل) عام 1982م، بتجريد كتب التفسير والحديث النبوي الشريف والفقه والتراث من إطلاقها، واستخراج ما يتّصل منها بالاقتصاد الإسلامي فكراً وعملاً ومؤسسات. وقد استفاد القائمون على هذا العمل الواسع من تقصّي المادة الموجودة في نحو 1500 مصدر وكتاب مطبوع، لأن القائمين على المشروع، بإشراف الدكتور عبد العزيز الدوري لم يعودوا إلى مادة المخطوطات , وتجدر الإشارة هنا إلى أن التاريخ الثقافي العربي كان قد شهد عديدا من النماذج في فهرسة المصطلحات وعناوين المؤلفات، مثل كتاب «مفاتيح العلوم» لأبي عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي (ت 387هـ/998م)، و»كشّاف اصطلاحات الفنون» لمحمد بن أحمد النهاوندي (ت 1159هـ/1746م)، وغيرهما من التجارب. ولكن لم تُفهرس الأمهات من المؤلفات بشكل مهني فني إلا بعد أن حُقِّقت وأصبحت المصطلحات الواردة فيها ميسورة المنال، وأصبح في الإمكان تخزينها في الحواسيب وبناء قواعد البيانات. من هنا تأتي أهمية مشروع مؤسسة آل البيت، عندما أصدرت أولاً العمل في 24 جزءاً، ثم عادت وأخرجته في أربعة مجلدات ضخمة تحت عنوان: (الجامع لنصوص الاقتصاد الإسلامي).
ويبقى هذا العمل الضخم بحاجة إلى الاستكمال، وذلك بمسح ما جاء في الكتب بلغات الشعوب الإسلامية الأخرى، مثل الفارسية، والعثمانية, التركية، والأوردية، والبهاسا في بلاد إندونيسيا وماليزيا ومجتمعات الأرخبيل، كما تجاهل هذا العمل ما دُوِّن باللغات الأوروبية، وبخاصة الإنجليزية، على ضوء جهود خورشيد أحمد ومحمد صدّيقي من باكستان، ولطفي برقان من تركيا، وجهود فريق العمل الذي قام على إعداد مجلة «الأحكام العدلية».
لقد وفّر هذا العمل للباحثين مادة واسعة عن التجارة والاحتكار والتسعير والنقود والائتمان والإدارة المالية، بما في ذلك الموازنات والنفقات والواردات وأسعار الصرف، ونجد مادة ضخمة عن الأسواق وأصحاب الصنائع والحرف، وأنواع الصناعات من صناعة الصابون إلى صناعة الأدوية والعقاقير، وشملت هذه المجلدات مادة واسعة عن التجارة الداخلية والخارجية والموانئ، مثل ميناء السويس وعدن ومكناسة والإسكندرية وتونس وجدة، وبقية الموانئ التي ذكرها الرحالة وأصحاب القواميس الجغرافية، مثل ياقوت الحموي وغيره من أصحاب الموسوعات.
ومن أمتع فصول هذا الفهرس، ما جاء تحت عنوان:( التركات )، فهو يعطينا صورة بانورامية عن ثروات كبار المسؤولين و تركاتهم، فقد حرص المؤرخون المسلمون، في مختلف الحقب والعصور، على ذكر تركات الخلفاء والوزراء والقضاة وكبار رجال الجيش، ومثل ذلك تركات كبار التجار والصاغة، متذكرين هنا نظام المصادرات الذي كان يسود أيام فقر الدولة، وحاجة خزائنها إلى الأموال. فهذا المؤرخ مُطهَّر بن طاهر المقدسي (ت 355هـ/966م)، يذكر أن عمرو بن العاص (ت 43هـ/663م)، «يخلف من المال ثلاث مئة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار»، هذا إضافة إلى ما تركه’ «ومن الورق ألفي ألف درهم».
وتوفي معاوية بن أبي سفيان «وله من الأموال خمسون ألف ألف درهم»، أما أبو جعفر المنصور فترك «تسع مئة ألف ألف درهم وستين ألف ألف درهم سوى سائر الأصناف»، أما الخليفة المعتصم بالله فترك «ثمانية آلاف ألف دينار وثمانية وعشرين ألف ألف درهم وثمانية آلاف غلام وثمانية عشر ألف درهم». يدلّنا هذا العدد من الغلمان على تجارة النخاسة بالرقيق الأبيض من بلاد الأتراك وقفقاسيا وغيرها من جهة، والأهم من ذلك أن تكوين الجيش أصبح يعتمد على الأرقّاء والمماليك، وليس على أبناء الأمة، ونجد أن تركة أحد الشعراء، ( سلم الخاسر) الذي توفي في زمن هارون الرشيد، كانت ستة وثلاثين ألف درهم، أما تركة التاجر أبو عبد الله القمي المصري (ت 400هـ/1009م)، فكانت ألف ألف ونيفا، مالاً صامتاً ومتاعاً وجواهر، وكانت تركة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي ديناراً صورياً واحداً، بينما كانت تركة أخيه الملك العادل (ت 615هـ/1218م)، سبعمئة ألف دينار مصرية عيناً، والآن ماذا نقول عن تركات اليوم؟ إن هذه الأرقام التي يقدِّمها لنا الفهرس، تشكِّل مادة جيدة لدراسات تكوين الثروات، ومن ثم ظهور التمايز الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية، وما رافق ذلك من اندلاع أزمات من الفقر والجوع، كما أوضّح لنا ذلك المؤرخ المشهور أحمد المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغمّة»، فالغمة لم تعد فقط فقدان القوت، بل إنها تتعداه لتشمل المصائب التي تلفّ الأمة من أقصاها إلى أقصاها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي