التنمية .. ومسألة القيمة
تتمثل التنمية في القدرة على تحسين الحياة وتطوير عطائها. وهي قضية مثيرة لاهتمام الوحدات الاستراتيجية في الحياة على مختلف مستوياتها، بما يشمل مستوى الإنسان الفرد، ومستوى المؤسسة، ومستوى الأمة، بل مستوى العالم بأسره. وتتضمن هذه المستويات شتى قطاعات الحياة الخاصة والعامة، والإنتاجية والخدمية في المجالات المختلفة. ويشمل تحسين الحياة المأمول جوانب اقتصادية تحتاج إلى قيمة مادية، وجوانب إنسانية تتعلق بقيمة معنوية ترتبط بالثقافة والمفاهيم الأخلاقية، إضافة إلى جوانب اجتماعية تتعلق بقيمة تختص بجودة الحياة. ولا شك أن التنمية الشاملة التي تجتمع فيها القيم الممكنة للجوانب الاقتصادية والإنسانية والاجتماعية هي التي تعطي القدرة على تحسين الحياة وتطوير عطائها.
يناقش هذا المقال مسألة القيمة التي تحتاج إليها التنمية من مختلف جوانبها. إذا بدأنا بالقيمة المادية المرتبطة بالجانب الاقتصادي، لوجدنا أنها أيضا وسيلة مهمة للإسهام في دعم كل من الجانبين الثقافي والاجتماعي. تأتي القيمة المادية من نشاطات تفعيل الأصول وإدارتها بما يؤدي إلى الحصول على مخرجات تحمل قيمة يمكن الاستفادة منها محليا، ويمكن تصديرها وتبادلها مع مخرجات أخرى تحمل قيمة حصل عليها آخرون. وتشمل هذه الأصول، بالدرجة الأولى، إمكانات الإنسان بما يحمل من قوة العقل والفكر والمعرفة، وما يتمتع به من شغف وطموح لا ينتهي، وتتضمن أيضا ما أحاطه الله به من مصادر طبيعية، من بحار وأنهار، وصحار وخضرة وأشجار، ومعادن ونفط، وفضاء رحب، وكنوز لا تنتهي.
يتطلب توليد القيمة المادية شراكة من أجل ذلك تشمل مستوى الفرد ومستوى المؤسسة ومستوى الأمة. يأتي عمل الفرد، في جوهر هذه المستويات. فهو يقدم قيمة في إطار الالتزام بتوجهات المؤسسة ومتطلباتها، وهو يعطي قيمة أيضا في مجال السعي إلى تطويرها، وذلك سواء كان عاملا فيها، أو مالكا لها. وتبرز المؤسسة، بما لديها من أفراد، كلاعب في فريق الأمة، يركز على نجاح هذا الفريق عبر إسهامه في القيمة التي ينتجها، والتنمية التي يحققها. بذلك تنطلق الأمة لتعطي العالم من خلال مؤسساتها قيمة تعزز تنميته، وتأخذ منه ما يسهم في عملها ويعزز عطاءها.
يحتاج توليد القيمة المادية من أجل التنمية ليس فقط إلى إجراءات تتميز بالفاعلية في الحصول على المنتج المستهدف بالخصائص المطلوبة، بل إلى الكفاءة في هذه الإجراءات أيضا، أي الحد من تكاليفها مع المحافظة على خصائص المنتج. ويضاف إلى ذلك المرونة أو الرشاقة في الاستجابة للمتغيرات دون تأخير.
وهناك أساليب مختلفة متداولة لتحقيق ذلك. فالأسلوب المعروف "بإعادة الهندسة" يقضي بإعادة النظر دوريا بإجراءات الأعمال من أجل التخلص من النشاطات غير المؤثرة، والتي ربما تعيق العمل أو تحد من كفاءته، لمصلحة إجراءات فاعلة تقدم المنتج المأمول، بكفاءة عالية، وحد أدنى من التكاليف. حتى قبل ظهور هذا الأسلوب، كانت هناك توصيات الجودة المهتمة بهذا الشأن، التي بدأها "ديمنج Deming"، وأضاف إليها مزيد عدد من خبراء الجودة الآخرين، كما كانت هناك أيضا توصيات أسلوب "كايزن Kaizen". وقد شملت هذه التوصيات أفكارا تهتم بالقيمة، وتدعو إلى تجنب الهدر، والحد من الأخطاء، والحرص على التطوير المستمر، بما يسهم في تعزيز القيمة المادية.
وهكذا نجد أن مسألة القيمة المادية، والابتعاد عن كل ما يعيقها، أو يؤدي إلى هدرها، يجب أن تكون مسألة حية في عقلية كل إنسان وفي إدارة كل مؤسسة. لكن ذلك غير كاف، لأن الإنسان لا يحيا بالقيمة المادية فقط، ففيه خصائص تحمل قيمة أخرى منحها الله له وجعلها مبنية فيه، وجزءا من تكوينه، ومن توجهاته. وفي الإنسان أيضا خصائص أخرى تتضمن ثقافة وقيما مجتمعية، يكتسبها عبر نشأته ومسيرة حياته، فضلا أيضا عن قواعد مهنية، يلتزم بها وتحمل قيمة له، وكذلك لمؤسسته. والمتفق عليه في هذا المجال، وعلى نطاق واسع، هو الأخلاق التي قال فيها رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". والأخلاق بالطبع قيمة للإنسان، وقيمة للمؤسسات، وهي قيمة أيضا للمجتمع، ففي التعامل الأخلاقي أمن وسلام وعدل للجميع.
وللأخلاق في الحياة، وفي مختلف أنحاء العالم، مفاهيم متعددة متفق عليها، لعلنا نطرح أمثلة عنها متداولة على نطاق واسع. هناك "مفهوم الأخلاق" الذي يعود إلى عصر حضارة الإغريق قبل الميلاد. والمعنى المقصود بهذا المفهوم هو التمييز بين ما هو كائن، وبين ما يجب أن يكون، والسعي بالتالي إلى إغلاق الفجوة بينهما لمصلحة ما يجب أن يكون. ثم هناك مفهوم قواعد السلوك الأخلاقي، الذي يعود إلى عصر حضارة الرومان، ويعد هذا المفهوم أن قواعد السلوك الأخلاقي ترتبط بثقافة المجتمع المحلي، لكنها تتمتع أيضا بجانب عام يشمل جميع المجتمعات، مثل الواجبات والالتزامات والمسؤوليات المنوطة بكل إنسان.
ولعلنا لا ننسى مفهوما شهيرا آخر، ألا وهو "مفهوم الفضيلة، العائد إلى حضارة الإغريق، فإذا وصف شخص بأنه "فاضل" فهذا يعني أنه شخص يستحق الإعجاب أخلاقيا وفكريا وسلوكيا، أي أنه يدرك الواجبات والمسؤوليات ويلتزم بها، فضلا عن تمتعه بالقدرة على التفاعل الفكري مع الآخرين. وفي كل ذلك قيمة معنوية إنسانية تحمل خيرا للمجتمع، وللعمل المهني ومعطياته المادية.
تسهم القيمتان الإنسانية والمادية في بناء القيمة الاجتماعية، ففي القيمة الإنسانية عطاء ثقافي معنوي للمجتمع يفعل أمنه ويعزز أمانه، ويحرك تواصله مع الآخرين، ويزيد سعادته. وفي القيمة المادية استجابة لمتطلبات البنية الأساسية، والتعليم، والصحة، والخدمات الأساسية الأخرى المختلفة. وتقول الحصيلة، في هذا المجال، إن هذا الإسهام المزدوج يعطي ارتقاء مطلوبا في حياة الإنسان.
تحتاج التنمية إلى قيمة مادية تتمتع ليس فقط بفاعلية تحقيق المطلوب، بل بالكفاءة في ذلك وتجنب الهدر، والاستجابة برشاقة للمتغيرات. وتتطلب التنمية أيضا قيمة معنوية تتبنى حسن الخلق، وتعزيز التفاعل والتعاون، وربما التنافس على أسس عادلة بين الناس. وتؤدي القيمة المادية مع القيمة المعنوية، إلى بناء القيمة الاجتماعية، والارتقاء بحياة الإنسان ورفاهيته نحو آفاق واسعة.