صناعة الصلب الأوروبية .. تراجع يقلق صانعي القرار الاقتصادي والاندماجات طوق النجاة
لم ترتبط صناعة بمفهوم قوة الدولة وعظمتها الاقتصادية وعلاقاتها بالعصر الحديث كصناعة الصلب.
بالنسبة لأوروبا فإن تلك الصناعة تعد أحد الأعمدة الفقرية الرئيسة لاقتصادها، وحجر الزاوية لضمان مواصلة مجموعة من صناعاتها الاستراتيجية، النجاح وتحقيق أرباح هائلة والحفاظ على مستويات تشغيل مرتفعة. فصناعة السيارات والآلات وعدد آخر من الصناعات الأوروبية المهمة تعتمد في تفوقها على عوامل مختلفة، لكن لا شك أن توافر إمدادات الصلب وبأسعار مقبولة كان ضامنا لنجاحها وتميزها.
مع هذا لا تبدو الأوضاع جيدة بالنسبة لمنتجي الصلب الأوروبيين حاليا، فالصناعة التي كانت في بعض لحظات التاريخ رمزا لتفوق أوروبا على منافسيها تواجه تحديات منذ أعوام طويلة وتبدو غير قادرة على التغلب عليها.
الرابطة الأوروبية للصلب أشارت سابقا إلى توقعها بأن ينخفض استهلاك الصلب أوروبيا هذا العام بنسبة 1 في المائة، لكنها عادت أخيرا وعدلت من توقعاتها، وأعلنت أن نسبة انخفاض الطلب على الصلب في الاتحاد الأوروبي ستصل إلى 3 في المائة، عام 2023 وسط استمرار ارتفاع أسعار الطاقة وتباطؤ الطلب، ليشهد القطاع بذلك تراجعا واضحا في الطلب للعام الرابع خلال الأعوام الخمسة الماضية.
تشير التقديرات المتاحة إلى أن قطاع الصلب في بلدان الاتحاد الأوروبي ينتج نحو 152 مليون طن متري من الفولاذ سنويا من نحو 500 موقع إنتاج بحجم مبيعات يقدر بنحو 144 مليار دولار، ونظرا لضخامة المبيعات وأهمية الصناعة فإن تعرضها للتراجع أو عجزها عن التصدي لما تواجه من تحديات يثير كثيرا من القلق والتوتر، ليس فقط للمنتجين، بل لصانعي القرار الاقتصادي في القارة.
ويقول لـ"الاقتصادية" المهندس دي. دبليو. ستيفن المشرف على قسم إدارة المشاريع في شركة وليام هاري لإنتاج الصلب: "لم تحرز صناعة الصلب الأوروبية تقدما يذكر في جهودها للتعافي منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008-2009، فخلال الفترة من 2011-2019 انخفض الطلب الهيكلي على الفولاذ بنحو 19 في المائة أقل من متوسط الطلب خلال الفترة من 2004 إلى 2008، جزء من هذا التراجع يعود إلى التطور الكبير في صناعة السيارات والآلات، ما أدى إلى انخفاض كمية الفولاذ المستخدمة في إنتاج السيارات الحديثة مقارنة بالسيارات التقليدية، علاوة على ذلك أدت الاضطرابات التجارية الدولية في الأعوام الأربعة لتولي الرئيس الأمريكي دونالد ترمب سدة السلطة، والسياسات الحمائية للولايات المتحدة إلى انخفاض صادرات الصلب الأوروبية.
يضاف إلى ذلك أن فترة وباء كوفيد شهدت انخفاضا كبيرا في الطلب، وقد لا يتعافى الطلب على الصلب الأوروبي ويعود إلى مستوى ما قبل الجائحة حتى عام 2030، وإذا استمر هذا الوضع فمن المرجح أن تكون الخسارة الهيكلية للصناعة نحو 5 إلى 10 في المائة أقل من متوسط مستوى الطلب من عام 2011 إلى 2019.
وفي الواقع فإن جزءا من معاناة صناعة الصلب الأوروبية يعود إلى انخفاض الطلب على السيارات الأوروبية، فقد تراجعت صادرات السيارات بسبب قيام عديد من الاقتصادات الناشئة بعملية توطين للصناعة، وتكرر ذات المشهد في صناعة الآلات، خاصة مع قيام الصين وبلدان شرق وجنوب شرق آسيا بتوطين كثير من صناعة الآلات الهندسية والتوقف عن الاستيراد خاصة من ألمانيا، إضافة إلى ذلك فإن برامج التحديث أو التوسع في البنية التحتية في كثير من دول العالم تراجعت نتيجة الوضع الاقتصادي الراهن، وارتفاع الأسعار، ومع تقلص تلك المشاريع تراجع الطلب الدولي على الصلب الأوروبي، لذلك لم تتمكن قدرة الفولاذ الخام في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة من الوصول إلى مستويات استخدام أعلى من 80 في المائة.
مع هذا فإن بعض الخبراء يشيرون إلى أن التنبؤ الدقيق بمستوى الطلب على الصلب الأوروبي في الأعوام المقبلة يعتمد على العوامل المتعلقة بالظرف الاقتصادي الدولي واتجاهات سلوك المستهلكين والتدخلات الحكومية.
الدكتورة ميسون جيمس أستاذة الاقتصاد الأوروبي في جامعة ليدز ترجح أن يشهد العام المقبل تطورات أكثر ملائمة للتوقعات الصناعية في القارة الأوروبية، وسينعكس ذلك على صناعة الصلب بزيادة الطلب، لكنها في الوقت ذاته تشير إلى ضرورة الأخذ في الحسبان حالة عدم اليقين التي تهيمن على الاقتصاد العالمي والأوروبي حتى الآن.
وتقول لـ"الاقتصادية": إن "الحرب الروسية الأوكرانية لها تأثير مهم ومستقبلي على صناعة الصلب الأوروبية، إذ اعتادت أوكرانيا أن تكون موردا رئيسا للصفائح الفولاذية إلى الاتحاد الأوروبي، وشكلت شحنات هذه المواد من أوكرانيا نحو نصف إجمالي واردات الألواح إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، وفي عام 2021 كانت أوكرانيا تزود أوروبا بـ43 في المائة من واردات الألواح الفولاذية".
وتضيف: "روسيا كانت ثاني أكبر مورد للألواح الفولاذية إلى الاتحاد الأوروبي الذي حظر شحنات الصلب من روسيا في مارس العام الماضي، بسبب الحرب في أوكرانيا، وزيادة عمليات الاستيراد من آسيا لسد الفجوة في العرض لا تكفي، وذلك رغم أن دول مثل إندونيسيا ضاعفت حجم شحناتها لأوروبا، كما زادت اليابان والهند وتركيا صادراتها إلى البلدان الأوروبية، ورغم ذلك هناك نقص في العرض".
وتؤكد أن ارتفاع الأسعار سيدفع بمصنعي الصلب الأوروبيين إلى إعادة توزيع الموارد وضخ استثمارات جديدة وتحديث تكنولوجيتهما لتلائم الاحتياجات الجديدة في السوق، هذا يعني أن صناعة الصلب الأوروبية لديها فرصة مستقبلية أفضل، أضف لذلك أنه في اللحظة التي ستتوقف فيها الحرب وتبدأ عملية إعادة الإعمار في أوكرانيا سيرتفع بشدة الطلب على المنتجات الأوروبية من الصلب.
لكن وجهة النظر تلك لا تبدو للبعض أنها تحمل حلولا جذرية للمشكلات التي تواجهها صناعة الصلب الأوروبية، فحتى في حالة حدوث انتعاش جزئي في الطلب، فإن الطاقة الزائدة في الصناعة التي لن يتم الاستفادة منها ستمثل إهدارا لجزء كبير من الاستثمارات الراهنة.
يضاف لذلك أن الإجراءات والقوانين الحكومية للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون توجد مزيدا من الضغط على وضع تكلفة الإنتاج في صناعة الصلب الأوروبية، كل تلك العوامل تترك مجالا صغيرا للمناورة بالنسبة لمنتجي الصلب الأوروبي في ظل عدم تمتع السوق بأوضاع إيجابية.
الخبير الاستثماري روبين ايثن يرى أن إنقاذ صناعة الصلب الأوروبية من مواجهة مزيد من التدهور يتطلب استراتيجية جديدة قابلة للتعامل مع التغيرات المحلية والدولية خاصة على الأمد الطويل.
ويقول لـ"الاقتصادية": "يجب أن تبنى الاستراتيجية الكلية للصناعة على مفهوم الاندماج والاستحواذ، وهذا يتضمن الدمج الأفقي لتقليل التكاليف الإجمالية للمصنعين على نطاق واسع من خلال الجمع بين أحجام الإنتاج وتحسين شبكة التعاون المشترك، وهذا يتطلب قرارات صعبة من بينها إغلاق المواقع الإنتاجية كثيفة التكلفة، وتخفيض الأيدي العاملة وإحلالها بالتكنولوجيا الرقمية".
ويضيف: "أنشطة الاندماج والاستحواذ لن تقتصر على الشركات الأوروبية فحسب، فاستخدام الشراكات الاستراتيجية أو عمليات الاستحواذ الدولية لتوسيع البصمة العالمية لشركات الصلب الأوروبية خيار ضروري للتعامل مع المتطلبات الجديدة في الأسواق، ومن خلال الاندماج والاستحواذ مع شركات أخرى غير أوروبية يمكن للمنتجين في القارة ضمان التنوع في أسواق جديدة واعدة خارج أوروبا، ويضمن لشركاتنا الوصول إلى أسواق إقليمية جديدة، وإضافة صبغة عالمية عليها عبر الاندماج أو الشراكة مع شركات دولية من خارج القارة، وهذا يضمن لشركات الصلب الأوروبية حالة من الاستقرار عندما تضطرب سلاسل التوريد العالمية".
ورغم تأييد عدد من الخبراء لوجهة النظر الداعية إلى مزيد من الاندماج والاستحواذ في صناعة الصلب الأوروبية، لمنحها مزيدا من القوة لمواجهة التحديات التي تواجهها منذ أعوام، إلا أن الفكرة التي تحظى بدعم أكبر بين قادة الصناعة بوصفها طوق النجاة الحقيقي من مصير غير محبذ لواحدة من أهم الصناعات الأوروبية، فيتعلق بضرورة العمل على زيادة الطلب على الصلب سواء عبر تعزيز مزيد من عمليات تشييد المباني بكافة أنواعها، نظرا لأن البناء يمثل 35 في المائة من الاستهلاك الظاهري للصلب في الاتحاد الأوروبي، والعمل كذلك على النهوض بصناعة السيارات لكونها أيضا واحدة من كبار المستهلكين للصلب، وحتى يحدث ذلك فإن صناعة الصلب الأوروبي ستظل تعاني أوضاعا لا تصب في مصالحها وليست قادرة على تغييرها.