المحتوى الرقمي .. النشأة ووجهات النظر «1 من 2»

سمي عالما "سيبرانيا" لأنه بات بمنزلة "الموجه" للعالم المادي الذي نعيش فيه، ولا شك أن أداته الرئيسة في قدرته على هذا التوجيه تتمثل في "محتواه الرقمي"، ففي هذا المحتوى معلومات ومعارف للجميع، كما أن مصدرها الجميع، وفيها كل إيجابيات، بل كل سلبيات الجميع أيضا. وعلى كل منا، أفرادا، وأسرا، ومؤسسات، أن يستفيد من الإيجابيات، ويكون مصدرا يسهم فيها، وفي تفعيل أثرها من ناحية، ثم على كل منا أيضا أن يتجنب السلبيات، ويكون محذرا من زلاتها، بل مانعا لها إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، من ناحية ثانية.
ضمن إطار ما سبق، وسعيا إلى التوعية، أقامت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات جلسة حوارية حول المحتوى الرقمي للأطفال والشباب في عصر شبكات التواصل الاجتماعي. شارك في الجلسة ستة من الخبراء وصانعي المحتوى، قدموا خلالها أفكارا، وآراء مفيدة، إضافة إلى خبرات ناتجة عن ممارسات على أرض الواقع. وإن دل توجه الوزارة نحو إقامة مثل هذه الجلسات على شيء، فإنما يدل على أن رؤيتها لتقنيات الاتصالات والمعلومات لا تقتصر على شؤون التقنية وخدماتها، بل تمتد أيضا إلى أثرها بجوانبها المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية.
يطرح هذا المقال، وكذلك المقال المقبل، موضوع المحتوى الرقمي، بما يشمل طرح نشأة هذا المحتوى وتطوره عبر الأعوام، من ناحية، ومناقشة حقائق وآراء، وردت في الجلسة في الحورية، حول المحتوى الخاص بالأطفال والشباب، من ناحية ثانية. تجدر الإشارة هنا، إلى أن هذا المحتوى يتمتع بأهمية خاصة، نظرا إلى أثره الكبير في نشأة الأجيال المتجددة، ولعلنا نقول، ما ورد في الجلسة الحوارية بشأن أهميته، أي دوره بصفته مربيا لهذه الأجيال، إلى جانب الأسرة والمدرسة، وثقافة البيئة والمجتمع.
بدأ العمل على تطوير تقنيات الشبكات، واسعة النطاق، التي تربط بين الحواسيب الكبيرة العامرة بالمعلومات في أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي، حيث تم في 1969 بناء أول شبكة بحثية مكونة من أربعة مراكز حاسوبية رئيسة، في أربع جامعات أمريكية متباعدة، بدعم من وكالة البحوث في وزارة الدفاع الأمريكية، ومشاركة عدد من الجامعات. وفي مطلع الثمانينيات من ذلك القرن برزت شبكات حاسوبية أمريكية أخرى مثل شبكة المؤسسة الوطنية للعلوم، كما ظهرت شبكات أخرى أقامتها الشركات المتخصصة، مثل "آي بي إم"، حيث قدمت هذه الشركة ثلاث شبكات متكاملة، إحداها في أمريكا، وأخرى في أوروبا، ثم ثالثة في منطقة الخليج. وقد تمتعت هذه الشبكات بمحتوى رقمي خاص متاح فقط لأصحاب العلاقة، فضلا عن السماح لهؤلاء بتبادل المعلومات فيما بينهم.
انطلقت، مع بداية التسعينيات شبكة الشبكات الإنترنت التي جمعت مختلف الشبكات الرئيسة التي كانت قائمة لتسمح لأصحاب العلاقة بمرونة التعاون معلوماتيا فيما بينهم. وجاء ابتكار ما يعرف بالعنكبوت العالمي "الويب WWW"، في ذلك الوقت، ليعطي الإنترنت بعدا توسعيا كبيرا مكن المؤسسات المختلفة من طرح مواقع معلوماتية، تتضمن محتوى رقميا يتيح لها تقديم خدمات معلوماتية للتوعية والدعاية من جهة، وللمتعاملين معها من جهة ثانية. وبالفعل بدأت الشركات العاملة في المجالات المختلفة، في نحو منتصف التسعينيات، بطرح مواقع معلوماتية تقدم خدمات للمتعاملين معها من خلال محتوى رقمي يختص بذلك. وانضمت، في أواخر التسعينيات، مؤسسات حكومية في بعض الدول إلى فعل مثل ذلك، وبناء مواقع وتقديم خدمات معلوماتية حكومية لأصحاب العلاقة في عدد من المجالات.
أعطى مؤتمر قمة المعلومات الذي عقدته الأمم المتحدة على مرحلتين 2003 في سويسرا، و2005 في تونس، نقطة انطلاق مهمة لجميع الدول في التوجه نحو التحول الرقمي في مجالات التعليم، والبحث العلمي، والصحة، وغيرها، إضافة إلى توفير تعاملات إلكترونية حكومية تشمل تقديم محتوى رقمي مفيد لأصحاب العلاقة، والقيام بتقديم خدمات معلوماتية حكومية أخرى لهم، عبر هذا المحتوى. وبدأ برنامج التعاملات الحكومية الإلكترونية في المملكة، المعروف بـ"يسر"، خدماته في تلك الفترة، إلى أن تحول في 2021 إلى هيئة الحكومة الرقمية.
توافق ما سبق، زمنيا، مع بداية بروز الشبكات الاجتماعية التي قدمت إلى الجميع منصات معلوماتية، لا تكتفي بتقديم خدمات عبر ما لديها من محتوى رقمي، بل تسمح أيضا للجميع حول العالم، ليس فقط بالتواصل عبرها، بل ببناء محتويات معلوماتية رقمية خاصة، يستطيع صاحب العلاقة إتاحتها على نطاق واسع، وربما للجميع، ويستطيع أيضا أن يجعل توافرها محدودا لأفراد أو جماعات يتعامل معهم. وإذا أردنا وضع أمثلة لأهم مثل هذه الشبكات، تبعا لتاريخ بدايتها، وأسمائها الأصلية، لوجدنا أمامنا القائمة التالية: فيسبوك 2004، يوتيوب 2005، تويتر 2006، واتساب 2009، إنستجرام 2010، سناب ـ شات 2011، تيك ـ توك 2016، وغير ذلك من شبكات اجتماعية تم إنشاؤها، أو يجري الإعداد لإطلاقها في المستقبل.
هكذا نجد أن التطور التقني كان وراء تطور المحتوى المعلوماتي الرقمي، والوصول إلى ما وصل إليه اليوم. فمن تبادل المعلومات عبر شبكات خاصة محدودة، إلى تبادلها عالميا عبر الإنترنت، وإلى مواقع رقمية معلوماتية على الإنترنت تقدم خدمات حكومية وتجارية ومعرفية مختلفة، ثم إلى شبكات اجتماعية متاحة للجميع حول العالم، لكيلا يكونوا فقط متلقين للمعلومات والخدمات المعلوماتية، بل صانعين لها أيضا. وإذا كانت بعض المؤسسات قد بدأت باستخدام الذكاء الاصطناعي في بناء محتواها الرقمي، وتعاملاتها المعلوماتية، فلا شك أن هذا الاستخدام سينتقل تدريجيا إلى الجميع فيما يقدمونه، وما يتفاعلون معه من محتوى معلوماتي رقمي. ولا شك أن الذكاء الاصطناعي، كوسيلة يستخدمها الإنسان، يمكن أن ينحاز إلى الإيجابيات فيعززها، أو ينجرف مع السلبيات فيعمقها.
ولعلنا نستعير، في ختام هذا المقال وتمهيدا للتالي، قولا لأحد متحدثي الجلسة الحوارية، ألا وهو أننا أمام المحتوى المعلوماتي الرقمي نحتاج إلى "التوازن" بين "تمكين" الاستفادة من إيجابياته، وبين "الحماية" من سلبياته... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي