كامب ديفيد آسيوي ـ أمريكي .. ماذا حقق؟
أشرنا في مقالات سابقة إلى مدى ما تعانيه السياسة الخارجية الأمريكية الخاصة بمحاصرة العملاق الصيني واحتواء تمدده، من متاعب جراء الخلافات العميقة بين أهم حليفين لواشنطن في الشرق الأقصى. فإدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية كثيرا ما اشتكت من أن الخلافات الكورية الجنوبية ـ اليابانية تؤثر سلبا في مخططاتها سواء لجهة محاصرة الصين أو لجهة التصدي لتهديدات النظام الحديدي في كوريا الشمالية.
من هنا جاءت مبادرة واشنطن لعقد قمة في المنتجع الرئاسي الأمريكي في كامب ديفيد في أغسطس الماضي بين الرئيس الأمريكي ونظيريه الياباني فوميو كيشيدا والكوري الجنوبي يون سوك يول، بعدما فشلت اجتماعات عدة عقدت على مستويات وزارية لتقريب وجهات النظر بين طوكيو وسيئول، علاوة على فشل اجتماعات قمة عقدت بين الأطراف الثلاثة على هامش قمة العشرين في هيروشيما في مايو 2023.
يقال إن بايدن تولى بنفسه عملية التنسيق لعقد هذه القمة، مستعينا بخبرة سابقة في الاتصال بالدولتين الحليفتين حينما كان نائبا للرئيس زمن إدارة باراك أوباما، علاوة على أن أول من استضافهم بايدن بعد تنصيبه رئيسا كانا زعيمي اليابان وكوريا الجنوبية، بل إن أول عاصمتين آسيويتين زارهما بايدن كرئيس كانتا طوكيو وسيئول، في دلالة على مركزية هذين البلدين بالنسبة إلى المخططات الأمريكية ذات الصلة بالأمن في المحيطين الهادئ والهندي وحماية تايوان وتحجيم الصين وردع كوريا الشمالية. ولعل ما سهل مهمة بايدن هو ما قام به الزعيم الكوري الجنوبي من جهد في وقت سابق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين بلاده واليابان بعد 12 عاما من الانقطاع والإهمال والخلافات.
أما ما جعل القمة أكثر أهمية وتركيزا على تعزيز البنية الأمنية الإقليمية التي تقودها واشنطن، فهو تزامنها تقريبا مع حدثين، أولهما إبحار 11 سفينة بحرية صينية وروسية عبر المياه القريبة من جزر محافظة أوكيناوا اليابانية في استعراض علني للقوة، وثانيهما زيارة سيرجي شويجو وزير الدفاع الروسي ولي هونج تشونج مسؤول الحزب الشيوعي الصيني إلى بيونج يانج، في وقت تحدثت فيه مصادر استخباراتية عن تعاون ثلاثي ناشئ بين بكين وموسكو وبيونج يانج، بل وقيام الأخيرة ببيع أسلحة لروسيا للاستخدام في الحرب الأوكرانية، ما عزز اندفاع طوكيو وسيئول وواشنطن نحو تعاون ثلاثي أوثق مضاد.
جملة القول إن هذه العوامل، معطوفة على ممارسات صينية تزعم واشنطن أنها تتصف بالإكراه الاقتصادي ضد طوكيو "تأميم جزر سينانكو المتنازع عليها عام 2010" وضد سيئول في 2019 بسبب نشرها نظام ثاد الأمريكي للدفاع الجوي، وضد الحليفة الأسترالية "استخدام التجارة كسلاح عقابا لكانبرا على سعيها لفتح تحقيق محايد حول منشأ جائحة كورونا". شجعت أطراف كامب ديفيد الثلاثة على الخروج بنتائج مهمة وملموسة، كرد على اتهامات صينية لواشنطن وحلفائها الآسيويين بمحاولة تأسيس حلف ناتو آسيوي والتصرف بعقلية زمن الحرب الباردة. وتمثلت نتائج قمة كامب ديفيد في عزم أطرافها الثلاثة على الوقوف معا وتبادل المعلومات بسرعة وتنسيق الإجراءات في حال وجود تحديات تؤثر في مصالحها المشتركة وتطوير صاروخ جديد قادر على اعتراض الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وعقد اجتماعات ثلاثية منتظمة على مستويات مختلفة، وإجراء تدريبات عسكرية سنوية مشتركة، واستحداث نظام للإنذار المبكر لتجنب الاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية.
الجدير بالذكر أن هذه النتائج تلتقي مع وتعزز استراتيجية سيئول الدفاعية التقليدية الموجهة نحو شبه الجزيرة الكورية، واستراتيجية طوكيو الأمنية الاقتصادية مع الهند، واستراتيجية مجموعة AUKUS الرباعية المكونة من الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان للردع الإقليمي ضد القوى المعادية.
لكن تبقى المعضلة كامنة في الرأي العام الياباني والكوري الجنوبي، الذي لم يرحب بنتائج القمة الثلاثية انطلاقا من موقفه المضاد لأي تقارب ياباني ـ كوري جنوبي بسبب أحداث تاريخية غابرة.
وفي الوقت نفسه، فإن تنفيذ ما اتفق عليه يبقى مرهونا ببقاء الزعماء الثلاثة الموقعين في مناصبهم. حيث يواجه يون سوك يول انتخابات برلمانية مصيرية في أبريل المقبل، خصوصا أنه انتخب كرئيس بفارق ضئيل للغاية، ويواجه كيشيدا إعادة انتخابه كزعيم لحزبه الحاكم في سبتمبر ويتعرض لضغوط داخلية بسبب أدائه الاقتصادي الباهت رغم نجاحاته في السياسة الخارجية، أما بايدن، الذي لم تكن القمة سوى وسيلة لضمان إرثه السياسي وبديلا لاستحالة عودة إدارته إلى اتفاقية التجارة الإقليمية الشاملة والشراكة عبر المحيط الهادئ، فإنه سيخوض معركة رئاسية صعبة في نوفمبر، وبالتالي يحرص كل منهم على عدم إغضاب ناخبيه بقرارات لا تحظى بشعبية، فيمهد طريق الفوز لمنافسيه.