الإعلام الغربي .. الحياد بوصفه فكرة هلامية
ما رافق تغطية الأحداث الجارية منذ أسابيع فق الأراضي الفلسطينية، أعاد إلى الواجهة سجالا قديما متجددا حول حيادية وسائل الإعلام في متابعة الأوضاع في مناطق الصراع، ولا سيما بعد السقوط المروع لمنابر إعلامية غربية، معروفة تاريخيا بمستوى عال من الموضوعية والحياد والدقة، في أخطاء قاتلة، جعلها في موقف المنحاز لطرف ضد آخر. فكتبت صحف عالمية، ذات تاريخ مهني مشرف، بالبند العريض عناوين كاذبة، ونشرت أخرى صورا بعيدة عن الحقيقة، دون اعتبار للحدود الدنيا من الحرفية والمصداقية والحياد.
انتقل عدد من المنابر الإعلامية العالمية في الحرب على غزة من وظيفة الإخبار إلى مهمة النضال، بعد تجاوز كثير من الصحافيين دورهم التقليدي، ممثلا في الوساطة في نقل صورة عما يحدث في العالم إلى حشد الدعم والتجييش بحثا عن تأييد فريق على حساب آخر. فتابع العالم بأسره منذ السابع من أكتوبر الجاري، تغطيات قدمت جزءا من الرواية فقط، وتحليلات تعرض زاوية نظر معينة للأحداث، وتغطية تكتفي بنصف الحقيقة لا الحقيقة كاملة.
هكذا توارت الموضوعية بمشمولاتها الواسعة من توازن ومصداقية وحياد ونزاهة، ما يعد أهم قيمة في العمل الإعلامي، لمصلحة الانحياز الذي اتخذ عدة أوجه في التغطية الإخبارية، تراوحت ما بين تقديم الرأي بمنزلة خبر، كما يكون الانحياز في اختيار المصادر أو في تجزئة السياق، فضلا عن الانحياز في استخدام لغة تعتمد تعريفات خاطئة.. سواء كان ذلك عن عمد أو جهل أو فقط جراء عدم الاهتمام، ما يفضي في نهاية المطاف إلى تقديم تغطية منحازة خدمة لوجهة نظر أو اعتبار معين وليس خدمة للحقيقة، رسالة الصحافة الأسمى.
عد الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة يجعل وضع حدود فاصلة بين الحياد والانحياز غاية في الصعوبة، فالصحافي مهما تلمس التجرد من ذاته ونظرته الخاصة تجاه العالم، يبقى إنسانا لا يمكن تحويله إلى مرآة أو آلة فوتوغرافية تنقل الوقائع، دون أن تلحقها بعض من نوازع الذات. ألا يمكن تكييف كل الخطوات التي تسبق صناعة المادة الإخبارية، من تضخيم وتحجيم وانتقاء وحذف وإبراز وتهميش.. بكونها شكلا من أشكال الانحياز، فطائفة من الخبراء تعد ما يسمى بـ"حيادية المعلومات" مجرد جزء من الرواية الرأسمالية للصحافة.
زد على ذلك، أن الصحافي مهما تحرى الحياد في مهمة الوساطة بين مصادر الخبر والجمهور، يبقى مقيدا بالخطوط الحمراء التي تضعها المؤسسة الإعلامية التي ينتمي إليها، فهذه الهيئات والمؤسسات التي تتاجر في بيع المعلومات والأخبار، تكون ذات توجهات سياسية أو انحيازات أيديولوجية "يسارية، يمينية، محافظة، ليبرالية، قومية، علمانية..."، تنعكس بوضوح على سياستها التحريرية، ما يجعل الصحافي محكوما بالحيادية كثابت من ثوابت العمل الصحافي، وقيود الخط التحريري التي تمثل بوصلة تضبط توجه المؤسسة الإعلامية. بذلك يكون الحياد "معلومات محايدة" مجرد فكرة هلامية، فما يجرى في الواقع من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية وجيوسياسية وعلمية... يصبح مادة خبرية بعد خضوعه لتحليلات متباينة.
وأسهم ارتفاع الطلب على الأخبار إنتاجا واستهلاكا، خاصة عقب ظهور أول قناة إخبارية كاملة "سي إن إن"، في تدفق المعلومات بشكل مستمر دون توقيت محدد، ما زاد مسألة الحياد تعقيدا وغموضا. فتبلور رأي يعد أن البشرية تدخل "حقبة ما بعد الحقيقة"، حيث تراجعت الحقائق والبيانات والمعلومات لمصلحة المعتقدات والرغبات والرؤى، وتحولت وسائل الإعلام، خاصة بعد تعزيز الإعلام التقليدي لصفوفه بمستجدات الثورة الرقمية، إلى أدوات فاعلة في صراع مشتعل، يحتدم يوما بعد آخر.
تتجه الصحافة على ما يبدو، ولا سيما في الأوساط الغربية، إلى إعلان نهاية زمن الموضوعية، كما عبر عن ذلك المراسل البريطاني جون بينار، مؤكدا أنه خلال أربعة عقود من العمل مراسلا لم يجد مثل هذا الغياب البائس مثلما يحدث حاليا. صحيح أن الموضوعية المطلقة مجرد خرافة، لجهتين، إحداهما، عدم وجود صحافي بمقدوره أن يستطلع أبعاد الحقيقة كاملة. والأخرى، استحالة تحقق الشروط الموضوعية المثلى، فالأسلوب والتفضيلات والصور وباقي مرفقات السرد عناصر تؤثر في بقاء قصة ما معقمة من الأثر الشخصي الذاتي للراوي، فالبحث عن أخبار كاملة مثل تعليمات استخدام الغسالة أو المكواة الكهربائي أمر مستحيل.
مهما بدت المسألة صعبة إلا أنها ليست مستحيلة، فالصحافي عند تقديم تغطية الحدث أو تقديم الخبر ملزم بالحياد، أو على الأقل محاولة إظهاره، حتى يبدو متوارنا وموضوعيا فيما يقوم به، تماما مثل حكم القاضي الذي يتولى مهمة إصدار حكم مطابق لنص القانون ومعلل تعليلا كافيا يجعله يحظى بالمقبولية لدى الجميع. حياد المؤسسة الإعلامية لا يقل أهمية عن حياد الصحافي، ففي الصحافة الجادة فصل تام بين صفحات الأخبار وأعمدة الرأي والتعليق، وفي مبكرات المذياع وعلى شاشات التلفاز خط فاصل ما بين نشرات الأخبار حيث السرد الواضح للوقائع دون تأويل وبرامج الحوار والتحليل والجدال، حيث يتسع نطاق حضور الرأي والموقف والتفسير على المادة الخبرية، التي تصبح مجرد حاشية على متن النقاش.
أمام الانحياز المكشوف للإعلام الغربي حيال أحداث فلسطين، لدرجة تزوير الحقائق حتى تتوافق مع سردية رجال السياسة وصناع القرار في الدوائر الغربية، ما جعل الأكثر تقدم الحقيقة ومعها أدبيات العمل الصحافي قرابين وفاء لسردية إسرائيل، لا بأس من التذكير بقول الكاتب والصحافي جون بول سارتر: "لا حياد في الحقيقة" بعد نشره البيان الشهير ضد احتلال الجزائر في جريدة ليبراسيون التي كان يتولى حينها رئاسة تحريرها، بعد اتهامه بمعادة المصالح العليا لفرنسا. وقبله بالحكمة الذهبية لعميد الصحافة البريطانية سي بي سكوت، رئيس تحرير صحافية الجارديان، بمناسبة مئوية إصدار اليومية في 1921، حين خاطب الصحافيين قائلا: "من الجيد أن نكون صريحين مع القراء... فحرية الكلام متاحة للجميع، لكن الحقائق يجب أن تبقى مقدسة بالنسبة إلينا كصحافيين".