عهد جديد من الروابط لقمة التعاون ـ آسيان
على وقع المتغيرات الدولية والإقليمية المتسارعة عقدت في الرياض أخيرا، لأول مرة، قمة جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي الست مع نظرائهم من قادة رابطة أمم جنوب شرق آسيا "آسيان" العشرة، بهدف رفع مستوى التعاون بين الكتلتين إلى المستوى الاستراتيجي، واستكشاف فرص التعاون الجديدة وفق خطة العمل المشتركة "2024 ـ 2028".
المعروف أن دول مجلس التعاون تبنت منذ عقدين سياسة التوجه شرقا في المجال الاقتصادي، وهذا أسفر عن إقامة بعض الشراكات الاستراتيجية مع عمالقة آسيا كالصين والهند، لكن ظلت العلاقات بين كتلتي "التعاون" و"آسيان" دون المستوى رغم الفرص الكثيرة المتاحة للشراكة والتعاون. يذكر أن أول اتصال رسمي بين الكتلتين كان في 1990، لكن أول اجتماع وزاري بينهما لم يعقد إلا في 2009، حيث تم فيه تبني رؤية مشتركة بشأن التجارة وإطلاق وعود وتمنيات كثيرة لم تسفر عن شيء. ويكفي أن نعلم، في هذا السياق، أن حجم التبادل التجاري السنوي بين الجانبين لئن كان ضخما في حدود 110 مليارات دولار، إلا أنه في التفاصيل نجد أن الواردات الخليجية من دول آسيان شكلت فقط نسبة 6 في المائة من إجمالي ما تستورده دول التعاون في الفترة ما بين 2016 و2020 مثلا، على الرغم من أن صادرات دول التعاون إلى دول آسيان، والمشتملة تحديدا على النفط الخام والبتروكيماويات، آخذة في الارتفاع، حتى صارت دول التعاون رابع أكبر شريك تجاري لآسيان من بعد الصين والهند والاتحاد الأوروبي.
من جانب آخر، نجد أن التعاون الاقتصادي بين الكتلتين أثمر حتى الآن عن قيام شركات في دول التعاون بالاستثمار في مصافي نفطية ومرافق بتروكيماوية في بعض أقطار آسيان، مع استثمارات محدودة في قطاعات الأغذية والزراعة والتجارة الإلكترونية والخدمات المالية، بينما نشطت الشركات الآسيوية في دول التعاون في قطاعي الضيافة والأغذية دون أن يكون لها حضور قوي في قطاع الخدمات المالية، أو مجالات النقل والخدمات اللوجستية أو في تقاسم المعرفة والخبرات المالية والرقمية.
عليه، فإن قمة الرياض جاءت لتصلح خللا وتفتح آفاقا جديدا من التعاون، بل عدت مدخلا مناسبا وضروريا لإعادة تنشيط روابط التعاون بين التكتلين، خصوصا في هذه الحقبة التي تشهد تطورات كثيرة، مثل: تسارع خطط التنويع الاقتصادي في المنطقتين التي تشمل قطاعات عديدة ومتنوعة، والتوقيع على إنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا الذي يبشر بفرص تجارية جديدة، ويعزز خطوط أنابيب موارد الطاقة، ويحسن الاتصال الرقمي، وإطلاق مشروع تواصل 2025 من قبل "آسيان" الذي يهدف إلى تعزيز القدرة التنافسية والشمولية والمجتمعية داخل "آسيان" وخارجها، وتمثيل عضوين من أعضاء مجلس التعاون "السعودية والإمارات" في المنتديات الاقتصادية الدولية "مجموعة العشرين ومنظمة شنغهاي ومجموعة البريكس بلس". هذا فضلا عن تعمق الخلافات بين الصين والولايات المتحدة اللتين تعدان من أكبر الشركاء التجاريين لدول المنظومتين.
صحيح أن وزراء خارجية الكتلتين يجتمعون سنويا منذ 2009، إلا أن الصحيح أيضا هو أن فكرة عقد قمم كل عامين لقادة الجانبين تعني ارتباطا أقوى بين تكتلين تزداد مكانتيهما الاقتصادية يوما بعد يوم، الأمر الذي يتيح شراكات وروابط ثنائية أو جماعية تتجاوز التعاون التجاري والاقتصادي والاستثماري في قطاعات النفط والبتروكيماويات والأغذية والزراعة والضيافة والدواء، إلى التعاون في مجالات الأمن والدبلوماسية والتجارة الإلكترونية والتكنولوجيا المالية والخدمات المصرفية والصناديق السيادية. هذا علما بأن بعض هذه القطاعات شهدت في دول آسيان في العام الماضي نموا تراوح ما بين 25 و90 في المائة. كما أن أقطار آسيان -مثلها مثل أقطار آسيا الكبرى- ملتزمة بأمن الخليج واستقراراه، لأن في ذلك مصلحة مباشرة لها لجهة ضمان شحنات وإمدادات الطاقة، وهي في هذا السياق يمكنها الإسهام من خلال قدراتها الدفاعية الآخذه في الصعود، ولا سيما البحرية منها، في أي شراكة خليجية ـ آسيوية أمنية.
مما لا شك فيه أن تسارع عملية التنويع الاقتصادي في المنطقتين سيؤدي إلى نمو التجارة البينية التي تم بالفعل وضع لبناتها الأساسية من خلال اتفاقيات شراكة اقتصادية شاملة بين بعض الدول في الكتلتين، لكن يظل الهدف الأسمى هو إبرام اتفاقية للتجارة الحرة، وهو هدف قد يكون صعب التحقيق لأسباب كثيرة، خصوصا أن محاولات كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والهند والصين للتوقيع على اتفاقية تجارة حرة مع كتلة مجلس التعاون، اصطدمت بعقبات أو توقفت لتباين الآراء.
من هنا عمد بعض دول التعاون إلى الدخول في اتفاقية ثنائية للتجارة الحرة مع عدد من دول آسيان مثلما فعلت الإمارات مع إندونيسيا وكمبوديا وفيتنام، وقطر مع سنغافورة مثلا "قبل أن تنضم بقية دول التعاون إليها".