الذكاء الاصطناعي .. مخاوف واحتمالات
"ما من شيء في مستقبلنا يمكن أن يغير حياتنا أكثر مما سيفعله الذكاء الاصطناعي"
ريشي سوناك، رئيس وزراء بريطانيا
ربما تساوت المخاوف المتوقعة الناجمة عن انتشار الذكاء الاصطناعي، مع الفوائد العائدة من هذا الانتشار. جهات تركز على الأخطار دون أن تنفي أهمية ومحورية هذه التكنولوجيا على البشرية جميعا، وجهات أخرى تعتقد أن من الضروري اليوم أن يتم تحديد أطر أمن هذا "الذكاء"، قبل أن يخرج عن السيطرة في وقت لاحق. ومن شدة "الهوس" بالأمن المشار إليه، صارت شركات التكنولوجيا عموما، توجه الانتقادات تلو الأخرى إلى الحكومات التي وضعت برأيها الأمان قبل الإنجاز، وركزت على الاحتمالات أكثر من المعطيات الحالية الخاصة بتطوير منظومة الذكاء الاصطناعي عموما. علما أنه لا توجد حكومة قللت من أهمية التكنولوجيا المشار إليها، ولا تستطيع جهة تشريعية أن تفعل ذلك بالطبع، خصوصا مع التوسع في هذا الميدان، الذي أصبح خبرا يوميا في وسائل الإعلام حول العالم.
بالطبع لا تراجع لحراك الذكاء الاصطناعي. فقد صار جزءا أصيلا من المشهد العام، وهذا يبدو واضحا من خلال إسهاماته المباشرة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي. فقد توقعت وكالة تحليلات الذكاء الاصطناعي "أيه آي إي أيه" التابعة لـ"مجموعة المعرفة المتعمقة" ومقرها لندن، تجاوز حجم اقتصاد هذا "الذكاء" 34 تريليون دولار بحلول 2027، من 20 تريليون دولار في العام الجاري. واستخدمت الوكالة بحسب ما أعلنت، خوارزميات الذكاء الاصطناعي لإعداد مسح شامل لسوق الذكاء الاصطناعي العالمية بأكملها". وتتفق جهات عدة مع هذا التقدير لحجم السوق المشار إليها، ما يعني أن المسار الخاص لهذا الميدان المتفاعل والأساس، ينطلق بسرعة إلى آفاق واسعة، وإن كانت في نظر بعض الحكومات تحمل الأخطار معها، وضرورة العمل على تحييدها.
بدا هذا الاهتمام بالذكاء الاصطناعي واضحا جدا، في القمة العالمية التي عقدت في بريطانيا قبل أيام، وشارك فيها، أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، وفاندر لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، وممثلون عن الحكومات، بما في ذلك ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا، فضلا عن مشاركين أساسيين من شركات التكنولوجيا العملاقة فقط. رغم أهمية هذه القمة، إلا أن الانتقادات التي أحاطت بها كانت أيضا كبيرة، على أساس أنها تركز على الأمن، دون بحث كاف لما يجري حاليا من حراك تكنولوجي مهم للغاية. الحق، أن هذه القمة تأتي في ظل تنامي الحراك الحكومي حول العالم من أجل ضمان "أمن الذكاء"، أي إنها تصب ضمن مسار التوجهات نحو توفير الضمانات اللازمة، بصرف النظر عن التأثيرات التي ربما قد تكون سلبية في حراك التكنولوجيا نفسها.
الذكاء الاصطناعي يمكنه بالطبع أن يحل مشكلات عالمية عديدة، الجوع مثلا، عبر إسهاماته في تحسين إنتاج المحاصيل الزراعية، ويمكن أيضا الإسهام في الأبحاث المباشرة الخاصة بكل أنواع الأمراض، ويساعد على الوصول إلى المستوى المأمول لحماية المناخ والبيئة، فضلا عن مواجهة الأوبئة وما شابه ذلك. في الأعوام القليلة الماضية، حقق قفزات نوعية في مجالات مختلفة. كما أن هذه التكنولوجيا توفر مساحات زمنية في الإنتاج بصرف النظر عن طبيعة الساحات الحاضنة لهذا الإنتاج، وهناك أمثلة كثيرة على أن للذكاء الاصطناعي أهمية لا يمكن التخلي عنها في المستقبل، خصوصا أنه يتحول شيئا فشيئا إلى قطاع أساس في كل الميادين تقريبا. ولا يوجد مسؤول متشكك في أخطار التكنولوجيا المشار إليها، يمكنه أن ينفي هذه الحقائق.
لكن هذا يعطي "المتشككين" مساحة لعرض الأخطار التي يحذرون منها، وفي مقدمتها بالطبع أن الذكاء الاصطناعي سيكون ساحة للمجرمين، أو الجماعات الإرهابية. يقول ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني، إن استخدام هذا "الذكاء" يمكن أن يلحق الأذى بالغير، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية، والمعلومات المضللة، والاحتيال. لكن السيناريو بعيد الاحتمال بالطبع، هو ذاك التي يتعلق بأن الذكاء الاصطناعي يمكنه الخروج عن السيطرة البشرية. رغم أن هذا الاحتمال أقرب للفانتازيا، إلا أنه يجد على الساحة العالمية من يقبله، بل يعمل على تضخيمه. وفي كل الأحوال لكل تكنولوجيا أخطارها، لكن إذا تم حصر هذه الأخطار مبكرا، بالإمكان الاستفادة إلى آخر مدى من تكنولوجيا، لن تكون مضافة إلى المشهد العام بل ستكون في صلبه.
الحق، أن الإجراءات التي تتخذ حاليا في مجال السلامة في حقل الذكاء الاصطناعي، ليست ضعيفة. فقد أصدر جو بايدن الرئيس الأمريكي أخيرا مرسوما، يلزم مطوري هذه التكنولوجيا بإطلاع الجهات الحكومية على نتائج إجراءات السلامة. وكذلك فعلت بعض الحكومات حول العالم. ولا شك أن هذه الإجراءات ستكون شديدة القوة في مرحلة لاحقة، خصوصا في ظل تنامي الأصوات التي تحذر من الأخطار الناجمة عن تكنولوجيا، دفعت قاموس "كولينز" البريطاني الشهير، إلى إدخال "الذكاء الاصطناعي" في متنه. المسألة في النهاية، تتعلق بمدى فوة وتأثير إجراءات تنظيم ميدان يكتسب أهميته يوما بعد يوم، ويفرض نفسه على الساحة العالمي، ويدخل في صلب الناتج المحلي الإجمالي الدولي، في ظل آمال لا حدود لها تعلقها البشرية عليه.