«فلوزاك».. جميعنا في الحب حمقى
الحب خبيئة الحكاية، وأساسها، والطعم الحريف لأرزها، هو لون دراقها وملمسه المخملي، جوهر الحياة القادر على تغيير شكل العالم، ولولاه لما غنى المغنون، ولا رسم الفنانون.
نداء القلب يتجلى في رواية "فلوزاك.. وثائق مسربة لمرضى الحب"، للروائية السعودية الدكتورة زينب الخضيري، الصادرة حديثا عن مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع، وتتناول القصص الأليمة، والذكريات المريرة، وتلك التي تخلد في الذاكرة، وكذلك الحب الذي لا يبهت بمرور السنين، بل يزداد بريقا ونضجا، في رواية تذكر القارئ بأشهر قصص الغزل والحب في العالم، مثل روميو وجولييت، ومجنون ليلى، وجميل بثينة، وعنترة وعبلة، وكثير وعزة، وآخرين.
دوار في القلب
تقع رواية "فلوزاك" في ثلاثة فصول، تبدأها الدكتورة الخضيري بالحديث عن الأمراض، وهي ثلاثة أثلاث، الثلث الأول نعرف المرض ونعرف علاجه، والثلث الثاني نعرف المرض ولا نعرف علاجه، والثلث الثالث لا المرض معروف ولا العلاج معروف، والمرض ليس عضويا، هو دوار يجتاح صاحبه في لحظة، عاصفة من المشاعر هاجمت قلبه، يكون المريض غافلا عن المعركة لدرجة أنه يسحق فيها دون أن يكلف حتى رصاصة، إلا إذا استعرنا من الشعر تشبيه النظرات بالرصاص القاتل.
بهذه الكلمات تضعنا الرواية على حديث أحد المرضى عن الحب الذي يشبه دوارا في القلب، وتدور حيثيات رواية "فلوزاك" في عيادة نفسية للدكتور عبدالرحمن، وما يدور فيها من حديث لأشخاص يعيشون اضطرابات نفسية، كان الحب يحتل جانبا رئيسا فيها، ويعيشون صراعات في دواخلهم ومجتمعهم.
هو الحب إذن، البوصلة التي لا تصل بك إلى أي مكان.. الذي يصنع المحال، الذي لا يجعل ما قبل الحال كما بعد الحال، هو الطائرة التي تخطفك ولا تعرف الوجهة ولا تطلب أن يدفع برأسك أحد أي فدية.
قصة فلوزاك
في عيادة الطبيب النفسي عبدالرحمن حالات مرضية نابعة من مشاعر الغيرة، والحب، وانهيار العلاقات بفعل الكذب، وحالات التعلق المرضي بالمشاهير، مشاعر الاكتئاب والقلق والاضطراب والتوتر، التي تفسر اسم رواية "فلوزاك"، ويحمل اسم دواء لهذه الأعراض.
ومن الحالات اللافتة التي مرت على العيادة -وتسردها الرواية- معاناة الشاب "ياسر" من حالة هياج ناتج عن نكس في حالته النفسية بعد حدوث مواجهة مباشرة مع ذاكرته، وكانت الممارسات الاستشفائية هي المصارحة بوضعه ومنعه من الغياب خارج البيت، وإعطاء موعد قادم في العيادة للتتبع، وكان الطبيب قد كتب له علاجا فيما مضى "استغراق المريض في ذكرياته وحثه على فتح الرسائل القديمة لاستعادة الحالة الأصلية وإبعاد الحالة الشبيهة، والوصول بذكرياته حتى النهاية، وانتظار وصول وضعه إلى الاستقرار بعد تفريغ حالة الخوف من الذكريات الطبيعية"، ثم كتب الطبيب تجديد "فلوزاك" 20 ملليجرام لمدة ستة أشهر.
قبيلة من الاهتمام والحب
كيف يبدأ الحب؟ تسبر الروائية زينب الخضيري أغوار الحب بدءا من الشرارة الأولى، فالحب يبدأ من شرارة ما، كانت أشكال تلك الشرارة في الماضي معروفة ومحدودة، لقاء رجل بفتاة في الشارع مصادفة، أو في منزل أحد الأقارب أو المعارف المشتركين، أو في الأسواق والأماكن العامة، يلمع بريق الإعجاب الأولي، وتترجمه الكلمات بفضول لا حدود له، ليأخذ مداه، ويصل إلى مبتغاه، لكن الأمور اختلفت اليوم، فبعد الثورة التكنولوجية أضيفت أساليب جديدة تولد تلك الشرارة الافتتاحية، قد تكون جملة مكتوبة، أو صورة، أو ردا على مسألة ما يفتح أبواب الحوار والتواصل، تحدث الشرارة هنا دون وضع اعتبار يذكر للمسافات التي تفصل بين الاثنين، ودون أن يعرف أي منهما وجه الآخر أو اسمه الحقيقي، قد يخالف هذا الأمر طبيعة القلب البشري الذي ينبض من خلال التفاعل مع تعابير الوجه، أو طبيعة الصوت قبل كل شيء.
ومن الحكايا التي تحكيها الرواية، قصة فاطمة التي تعاني رهاب الحب، وتعاني صراعات داخلية عنيفة، إذ تقول الروائية من الطبيعي أن يكون الخوف من الحب قبل وقوعه، ولكن من النادر أن يحدث بعد الوقوع في فخاخه، ثمة عدد لا بأس به من المصابين برهاب الحب، هذا الذي يعرف في الطب النفسي بمصطلح "الفيلوفوبيا"، حيث إنهم يبذلون جهدهم للابتعاد عن أية مؤشرات قد تقودهم إلى الوقوع في الحب، فيحرصون دائما على وضع لجام شديد القسوة والمتانة والإحكام على مشاعرهم.
يتعامل مصابو "الفيلوفوبيا" مع مشاعرهم المحتملة تجاه الطرف الآخر على أنها أمر مقلق للغاية، ولذلك يميلون إلى العزلة والابتعاد، ولا يضعون أنفسهم في طريق يؤدي إلى ارتباط عاطفي، يتخذون دائما الطرق التي لا تفضي إلا إلى الوحدة منذ بداية المطاف إلى نهايته.
والفيلوفوبيا لها أعراض تشابه أعراض الأمراض الجسدية أو العضوية، يحدث فيها التعرق وزيادة نبضات القلب، والرجفة، والإغماء، وكثير من الأعراض الأخرى، كما أنها تعالج بالأدوية بعد موافقة المريض على ذلك، إضافة لجلسات الصحة النفسية التي تتضمن العلاج السلوكي المعرفي، والعلاج بالصدمة، وقد يقوم الطبيب بإجراء العلاج بالصدمة من خلال وضع مشاهد مصورة رومانسية تجمع عاشقين، فتضع المريض بشكل فعلي أمام مواجهة صادمة مع طبيعة الحب، أي يجعله يواجه ما يخشاه.
رسالة شديدة السرية
أحداث رواية "فلوزاك" في نحو مئتي صفحة ملأى بالمشاعر والأحاسيس والتفسير الذي يحيط بالعلاقات، وتختم الرواية تشابكات علاقاتها ووثائقها المسربة بحديث من القلب إلى القلب، في رسالة شديدة السرية إلى القارئ، بقلم الناجية من الحب، الغارقة فيه أبدا، تقول فيها: إن الحب أن تعطي، أن تعرض تفاصيل عزيزة من حياتك، وأوقاتا غالية من عمرك، وأجزاء نقية من روحك وجسدك للبيع، بأثمان يراها غيرك بخسة، أن تكون عاشقا، هذا يعني أن ترى تلك العطايا بخسة، فتتسول.. لتعطي أكثر، وتتلاشى في عطائك سعيدا بفنائك، مبددا بخورك عطرا مباركا يبتسم من يهوى لريحه، فيصبح قلبك كرة طفولة، تقفز دون هوادة حتى تنتهي في زاوية الفناء المعذب الرحيم.
وتضيف في رسالتها أن الحب ورطة الحرية، ورقة الأصفاد، وماء يأخذ شكل الإناء في حين، ويتحول إلى سيل جارف في أحيان. أن تكون عاشقا، هذا يعني أنك مريض بالنقص لآخر، يرتق لك ثوب الأمل باكتمال بعد نقص، وارتواء بعد عطش، وامتلاء بعد حرمان.
جميعنا في الحب حمقى، إذا ظننا أننا سننجو منه دون أن نغرق فيه، إلى هذا تخلص الرواية، جميعنا حمقى، نتشارك في نسج حكايات حبنا لنرويها، إذا لم يكن لديك قصة فستكون معدوم اللون والطعم، معدوم الروح باختصار، وعندما لا تشارك حكايتك مع الآخرين ستكون شخصا مريضا.