3 أشهر .. حرب مجنونة
في إمكان المؤرخ الضليع بتاريخ الحروب أن ينبئنا، بيد أن قراءتي المتواضعة تقربني من الجزم أن ليس هناك حرب مثل الحرب المجنونة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة من حيث الضراوة والبطش والقتل والتدمير ودون تميز بين المسلحين والمدنيين، وبين المسلحين والأطفال والشيوخ.
أنا لست سياسيا ولا أنتمي إلى أي جانب من السياج الأيديولوجي، لكنني أكاديمي أحاول شرح وتفسير الواقع الاجتماعي من خلال ما أملكه من معرفة متواضعة بالعلوم الاجتماعية، في مقدمتها علوم التواصل وتحليل الخطاب.
لن أخفي سرا إن قلت إنني متسمر أمام الشاشات الخوارزمية "الرقمية" التي في حوزتي من هاتف نقال وحاسوب لما يقرب من ثلاثة أشهر وهو عمر الحرب على غزة.
كل يوم يمضي، أزداد تعلقا بأهالي غزة من المدنيين الأبرياء الصابرين، الذين لم يدهشوني بصبرهم بل ها هم يدهشون العالم برباطة جأشهم وحمدهم وهم يعانون الأمرين وإن لم يستلحقهم العالم قد تأتي المجاعة على من استطاع منهم أن ينفد بجلده من الماكينة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة.
أنا لست بغافل عن معاناة المدنيين الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ من أي طرف كانوا ولا أفضل قوما على آخرين، لكن ما وقع ويقع على أهالي غزة من قتل وتدمير وعددهم يربو على مليوني شخص ربما لم يحدث في التاريخ المعاصر للحروب، هذا بشهادة الصحافتين الغربية والإسرائيلية.
وأمنح التقارير التي تقول إننا حتى الآن ورغم هول ما تنقله لنا شاشاتنا الخوارزمية، فإن أبعادا كارثية أخرى لا يزال يغطيها الغبار الكثيف للمعارك، وما إن تضع الحرب أوزارها فإننا سنكون أمام فاجعة لم يشهد تاريخنا المعاصر لها مثيلا.
أخذت الصحافة الغربية تنقل لنا نسبة الذين قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية في غزة من سكانه البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة. لأول مرة في التاريخ المعاصر تشن حرب وتقتل فيها نسبة مئوية من السكان في فترة لا تتجاوز أشهرا ثلاثة.
بحسب الأرقام الحالية هناك من يقول إنها عبرت 1 في المائة من السكان، وهناك من يقول إن أخذنا عدد المفقودين ـ الجثث التي لم يكن في الإمكان الوصول إليها نتيجة الدمار الهائل وأدوات الإنقاذ البدائية ـ فإننا قد نكون أمام كارثة إنسانية بحجم مخيف. مع كل هذا هناك حصار خانق لأبسط مستلزمات الحياة ويشمل الماء والغذاء والوقود والدواء وأبسط مستلزمات الحياة الأخرى، والسكان تقريبا برمتهم تحولوا إلى لاجئين بلا مأوى داخل وطنهم.
كل هذا وغيره كثير أنقله حرفيا من الصحافة العالمية، التي يبدو أنها أفاقت من سباتها ورؤيتها الأحادية في الحرب وصارت تنظر بعينين بدلا من عين واحدة.
أحدثت الحرب المجنونة هذه شرخا في صفوفنا نحن الأكاديميين في الغرب. في مستهل الحرب لم يكن في إمكاننا حتى التعبير عن آراء توفيقية. فكانت إدانة قتل الأبرياء من الإسرائيليين ليست كافية، بل كان على المرء أن يناصر ما تقوم به إسرائيل جهارا وإلا وقع تحت طائلة المنبوذين.
لا أخفي سرا، وأنا أكاديمي أعيش في السويد، ما زلت حتى اليوم أحاول انتقاء كلماتي وعباراتي بدقة متناهية، لا خشية من الرقيب في الصحيفة التي أكتب فيها، بل خشية أن يترجم مقال لي ويراه الرقيب السويدي أنه يعبر الخطوط الحمر الكثيرة التي وضعوها لما يجب أن نقوله وما يجب ألا نقوله.
بعد ثلاثة أشهر، أستطيع القول إننا بدأنا نتنفس بعض الصعداء، حيث انقسمت الأكاديمية في الغرب إلى قسمين أو أصحاب رأيين مختلفين عن الحرب بعد أن كان رأيا واحدا هو السائد الذي بموجبه إن نطقت أو كتبت يجب أن تناصر إسرائيل أولا وأخيرا.
في إمكاننا اليوم كأكاديميين وكتاب أن نتجاوز بعض الخطوط الحمر، والفضل يعود إلى الصابرين من أهل غزة الذين يرمي بهم الجنون العسكري الإسرائيلي من طرف إلى آخر في قطاع صغير مثل غزة الذي هو الأكثر كثافة سكانية في العالم وهم يمشون ويهرولون حفاة في الصحراء وعلى الطرقات وبين الجثث المتحللة، وهم صابرون وشفاهم تنطق بحمد الله.
إن كان هناك منتصر في هذه الحرب فهم سكان غزة الصابرون من المدنيين. حتى الآن انتصروا على آلة عسكرية جبارة أطلقت عليهم مئات القنابل التي تزن نحو 2000 رطل، انتصروا بصبرهم الجميل.
الصحافة العالمية تسأل، والباحثون الغربيون ينبشون بطون الكتب علهم يصلون إلى السر الذي يجعل هذا الشعب صابرا إلى هذا الحد. يروون لنا قصصا عن مناطق شهدت من القتل والدمار أقل بكثير مما وقع ويقع من ويلات على أهالي غزة حيث يكشفون فيها تفشي الجريمة والفوضى العارمة والسرقات وفقدان الأمل وتلاشي الصبر.
أما أهل غزة فكأن هناك يدا خفية تهديهم وتمنحهم القوة والمنعة على الصبر وتحمل ما لا تطيقه الجبال. والله أنتم يا أهالي غزة، نساء غزة، أطفال غزة، شيوخ غزة، أبرياء غزة، والله أنتم الغالبون.
"وبشر الصابرين".