الكوكب الفارغ
من المثير أنه بعد أن كان العلماء يحذرون من "القنبلة السكانية" في منتصف القرن الماضي، نتيجة فشلهم في إدراك أن التقدم التقني قد يلبي احتياجات الإنسان المتزايدة وأن الإنجاب في جميع أنحاء العالم سيتغير من إنجاب ستة أطفال إلى أقل من طفلين بقليل، بعد تلك التحذيرات، أصبحت الأصوات الآن تعلو للتحذير من الانكماش السكاني.
في 2019 ظهر كتاب بعنوان "كوكب فارغ: صدمة الانخفاض السكاني العالمي". رغم علم المؤلفين لهذا الكتاب بأن التوقعات تشير إلى زيادة السكان إلى نحو عشرة مليارات نسمة أو حتى أكثر من ذلك قبل نهاية القرن مقارنة بنحو ثمانية مليارات نسمة في الوقت الحاضر، إلا أن المؤلفين يجادلان بأن انخفاض معدلات النمو السكاني في الدول الغنية مثل اليابان، وكوريا، وإسبانيا، وإيطاليا لن يتوقف عند ذلك، بل سيمتد إلى دول أخرى مثل الصين والبرازيل وإندونيسيا، بل حتى في الأماكن التي تشهد نموا سريعا في الوقت الحاضر مثل إفريقيا جنوب الصحراء.
ويعتقدان أن هذا سينعكس على ارتفاع نسب الإعالة نتيجة ارتفاع نسب كبار السن، وإلى تحولات جذرية في الاقتصادات على المستويات المحلية والدولية. ويؤكدان أن هذا التغيير ليس حتميا فحسب، بل جار بالفعل، وسيكون حالة دائمة، ونتيجة لذلك ستدخل البشرية ببساطة في تدهور نهائي، مع توقعهما إلى وصول السكان إلى نقطة الانهيار في السبعينيات من هذا القرن.
رغم أنه قد لا يكون الوضع سيئا للدرجة التي يتوقعها المؤلفان، فإن الكتاب استطاع التأكيد على رؤية معروفة سلفا لمستقبل لم يعد بالإمكان التحكم فيه أو تغيير اتجاهه، ألا وهو الانخفاض التدريجي في معدلات الخصوبة، وصولا إلى ذروة النمو السكاني في العالم، ومن المرجح جدا أن يعيش أطفال اليوم ليشهدوا نهاية النمو السكاني العالمي، وبداية الانكماش التدريجي، فكل التوقعات تتفق على الوصول لتلك الذروة مع اختلاف بسيط في تاريخ الوصول لها.
ربما يكون الطرح في هذا الكتاب وراء تغريدة الملياردير إيلون ماسك التي أشار فيها إلى أن الانهيار السكاني بسبب انخفاض معدلات المواليد يشكل خطرا أكبر بكثير على الحضارة الإنسانية من الاحتباس الحراري.
رغم الانخفاض السكاني الحالي في بعض الدول وترجيح حدوثه في دول أخرى في المستقبل، فإن السكان لن ينهار بشكل سريع كما يخشاه البعض، فلو افترضنا أن عدد السكان انخفض لما كان عليه في 2000 مثلا، فهذا لا يعد كارثيا، ورغم أن معدل السكان في العالم هو الأبطأ منذ منتصف القرن الماضي، وأن هناك نحو 60 دولة ستشهد انخفاضا في عدد سكانها بنسب متفاوتة عند حلول منتصف القرن الحالي، فإنه لن يكون هناك انهيار بشكل حاد، لكن ذلك سيترتب عليه آثار اقتصادية وسياسية تكون أكثر حدة في بعض المناطق، خاصة تلك الدول التي تعاني ارتفاع نسب الشيخوخة، وما يواكب ذلك من تزايد في احتياجات الرعاية الصحية، علاوة على الخشية من انخفاض تدفق الأفكار والابتكارات الجديدة. ومع ذلك، فإن البعض ينظر أن ذلك سينعكس إيجابيا على زيادة جودة التعليم وفرص التوظيف، ومزيد من الحرية الإنجابية والفرص المهنية للنساء، علاوة على الآثار البيئية الإيجابية.
من المناسب أن اختتم المقال ببعض الإحصاءات التي أطلقها أخيرا مكتب مرجع السكان، التي تشير إلى أن من المتوقع أن يرتفع عدد سكان العالم من نحو ثمانية مليارات نسمة إلى ما يقرب من 9.8 مليار بحلول 2050، مع تراجع في عدد سكان أوروبا الشرقية بنسبة 10 في المائة بحلول 2050، وأن تسهم إفريقيا في نحو 60 في المائة في النمو السكاني العالمي من الآن حتى 2050. كذلك من المتوقع أن ينخفض عدد سكان روسيا من نحو 147 مليون نسمة إلى 133 مليون نسمة فقط بحلول 2050. كما سينخفض عدد سكان الصين إلى 1.3 مليار نسمة بحلول ذلك العام. ويقابل ذلك تضاعف عدد سكان النيجر من 27 مليون نسمة إلى 67 مليون نسمة، أي بزيادة قدرها 146 في المائة. ومن المرجح أن يتضاعف عدد سكان الكونغو من 102 مليون نسمة إلى أكثر من 217 مليون نسمة بحلول 2050.
جدير بالذكر أن معدل الخصوبة الكلي أو متوسط الولادات لكل امرأة يبلغ نحو 2.2 على مستوى العالم، مع تفاوت كبير من منطقة لأخرى ما بين 1.1 في شرق آسيا و5.6 في وسط إفريقيا.
ختاما، لا شك أن انخفاض الإنجاب دون مستوى الإحلال سيؤدي إلى نتائج في أغلبها سلبية على النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات الإعالة، إلا أن ذلك سيكون أكثر حدة في بعض المناطق، في حين لن تتأثر مناطق أخرى بدرجة كبيرة، والأهم من ذلك أن هذه التغيرات لن تحدث على هيئة انهيار مخيف، لكنها تحولات ديموغرافية تدريجية بدأت ملامحها تظهر في بعض الدول.