«يانال» .. رسائل إنسانية وكثير من جرعات الأمل
تلعب المصادفة دورا كبيرا في حياة عديد من الأشخاص، ورغم أننا نؤمن إلى حد كبير بأن كل ما يصيبنا هو قدر مكتوب لنا، غير أن توافق بعض الأحداث وتزامنها يصنع منها مصادفة تكون في أحيان كثيرة سببا في تغيير مجرى حياتنا، وتنقلنا إلى جهة مختلفة لم تكن في الحسبان. وهذا ما جرى مع "يانال" البطل المحوري للفيلم الذي يحمل اسمه الذي تجمعه المصادفة بـ"ذهب" وتقوده الظروف إلى اتجاه مختلف عن الطريق الذي رسمه لحياته.
يعد الفيلم التجربة الأولى لجاد أبوعلي في الإخراج، وقد كشف النقاب عن شخصية أبوعلي كمخرج متميز ومؤلف يبحث في عمق المشكلات، إضافة إلى القدرة التمثيلية الخاصة في محاكاة الكاميرا وتقديم الشخصية المطلوبة. كما يتميز العمل باختيار مناسب للشخصيات التي تمثل خيطا متناقضا لكنها تقدم الرسالة المطلوبة بشمولية ملحوظة وتناغم بارز.
قناع يانال
"نقلت فيه قصة حقيقية لامستني عن قرب، وأضع فيه الإصبع على الجرح لأنه يحمل رسائل كثيرة"، هكذا عبر مهندس العمل كتابة وإخراجا وتمثيلا جاد أبوعلي عن باكورة أعماله السينمائية "يانال"، الذي يقدم خلاله قصة اجتماعية وفرت له فرصة التعبير عن مشاعر كثيرة تلامسه.
"يانال" شاب لبناني طموح، ينشغل بمرضه النادر، الذي يجعله يعاني خاصة مع غياب فرصة تلقيه العلاج المناسب في ظل أزمة انقطاع الكهرباء وفقدان الدواء، وقبل أن يستسلم لوجعه تجمعه المصادفة بـ"ذهب" التي تقلب حياته رأسا على عقب وتسير معه نحو نهاية لا يتوقعها عقل ولا منطق، مزيج من الألم والحزن والوجع، والرومانسية والتشويق والكوميديا، توصلنا إلى حقيقة صادمة، تجعله حاضرا رغم غيابه.
يضطر "يانال" إلى وضع قناع على وجهه يخفي ملامحه ويبقي عينيه الزرقاوين بارزتين تعبران عن شخصيته وتجذبان الآخرين نحوه، وتكونان وسيلة عبوره إلى بقاء دائم في عيون من يحب. يصاب بطل الفيلم بتشوه في وجهه نتيجة إصابته بمرض جلدي خطير، ويعجز الطب عن إيجاد حل لعلاجه، ما يحثه على أخذ المبادرة بنفسه، خاصة بعد أن تجمعه قصة حب بالفتاة الثرية "هيا" التي تقنعه بضرورة السفر لتلقي العلاج في فرنسا. تجمع بين "يانال" و"هيا" علاقة حب استثنائية، رغم أنها لا تعرف من ملامحه سوى عينيه الزرقاوين، لكنها أحبته بصدق وأحبها بجنون، وقاده هذا الجنون إلى ابتكار نهاية غير متوقعة لقصة كتب لها أن تبدأ طبيعية وتنتهي بكثير من المفاجأة والجنون.
انعكاس صورة الواقع
وضع الممثل جاد أبوعلي كل طاقاته الإبداعية في هذه التجربة السينمائية، ولأنه يعيش في هذا المجتمع ويجسد مرآة تبين واقع شبابه وأحلامهم الضائعة، حاول أن يتطرق في قصته إلى عديد من المشكلات التي تواجه الشباب اليائس في لبنان، من الفساد إلى الرشوة وإهمال الدولة لجيل من المفروض أن يشكل شبكة الخلاص للأزمات المتراكمة، ويوجد مستقبلا مختلفا. هذا ولم تغفل عين المخرج لدى جاد من مقاربة العلاقات العاطفية وسط هذه السلسلة من المشكلات والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ليؤكد ربما أن للحب طرقا مختلفا تؤدي في نهايتها إلى إمكانية البحث عن حلول ومخارج قد تنصف الشباب الضائع، أو لعلها توجد حافزا لتحويل هذا اليأس إلى طاقة وقدرة على الابتكار، وإن كانت طرق تفكير الجيل الجديد تختلف عن تقليدية الأجيال السابقة، غير أن الصورة الراسخة دائما وأبدا في أن الحب يصنع المعجزات، نراها واضحة في هذا العمل الذي بقدر ما يضحكك، يبكيك، ويجعلك تطرح أسئلة وتبحث عن حلول.
أما عن مجرى الأحداث فهو غير متوقع، حيث إن المشاهد سيصل إلى مرحلة الصدمة في الثلث الأخير من الفيلم وتنقلب الأحداث في اتجاه غير متوقع. الفيلم مستوحى من أحداث حقيقية مرت على لبنان، أما قصة الأبطال فهي تتطابق مع كثير من الأشخاص في مجتمع يئن من المشكلات ويقاوم ضغوطا على مختلف الأصعدة.
الحبيب المقنع
لأن "هيا" تأتي من بيئة مختلفة، أرستقراطية وثرية، يجعلها تبحث عن شيء غير نمطي حتى في علاقاتها العاطفية، واختباء ملامح "يانال" خلف قناع جذبها أكثر نحو هذه الشخصية، وسرعان ما وقعت في حبه، وبدأت بالبحث عن الخطوات الواجب اتباعها لمواجهة مرضه والشفاء منه. متابعتك للفيلم تشعرك بالغرابة، وتوالي الأحداث وتداخل الشخصيات مع بعضها، تترك في داخلك شعورا مختلفا، إلى أن تأتي النهاية التي تنكشف فيها أهمية هذا القناع في تخليص "يانال" من عذابه نتيجة مرضه دون أن يخسر حبه. حبكة سينمائية تنقذها فكرة إنسانية تخترق قلب المشاهد وتجعله يتمسك بالأمل في كل لحظة يعيشها. فإذا كان قناع "يانال" قد جذب إليه قلب "هيا"، لا شك أن طريقة تفكيره ومقاربته للأمور جعلته يعيش حبا لا ينتهي ويحقق رسالة في منتهى الإنسانية وكأنه يتقاسم حياته بحلوها ومرها وحبها مع الآخرين.
رسائل إنسانية
لم يسبق أن تم التطرق إلى موضوع وهب الأعضاء في عديد من الأعمال السينمائية اللبنانية والعربية، وقد تكون هذه الرسالة الأسمى التي يقدمها فيلم "يانال"، لأنه ناقش مشكلات وعلاقات إنسانية كثيرة ومعقدة وختمها ببريق أمل، يمكن أن نمنحه عندما نقرر منح أعضائنا بعد الوفاة. عندما يقع "يانال" في شباك حب حقيقي وقوي، يقرر أن يكتب خاتمة تبقيه على صلة مع حبيبته وتريحه من أعباء مرضه القاهرة، لهذا يتفق مع صديقته "ذهب" على منح عينيه لشخص ضرير على شرط أن يكون صاحب عيون زرقاء، حتى يتمكن من إكمال علاقته الرومانسية بـ"هيا"، ما يتيح لقصة حبه العيش أطول فترة ممكنة، في وقت يمنح فيه النور لشخص فقد نعمة البصر.
مهمة ذهب
لا شك أن وجود القديرة ليليان نمري في أي عمل يشكل إضافة حقيقية، لما تمتلكه من أداء عفوي وقدرة على أخذ الفيلم إلى منحى كوميدي رغم جدية القصة، وتنجح في إسقاط دمعة المشاهد وهو يبتسم، لأنها تمثل بتجرد دون أي تصنع. وفي فيلم "يانال" تقع على عاتق "ذهب" تنفيذ وصيته، بعد أن يختار الانتحار سبيلا لاستمرار حبه، ويكلف "ذهب" بمهمة العثور على شاب غير مبصر وقريب الشبه منه نسبيا لتقديم العينين له ووضعه في صورة العلاقة التي تجمعه بـ"هيا" كي يكمل علاقة حبهما، وتنجح "ذهب" في تنفيذ الوصية بحذافيرها وتجد الشاب الذي سيستعيد نعمة البصر وسيكون بانتظاره قلب مفعم بالحب والحياة، هو قلب "هيا" التي تطبق عليها الحيلة كونها لم تكن تعرف من "يانال" سوى عينيه.
إذن "يانال" فيلم سينمائي يتحدث عن قضية إنسانية حساسة لم يسبق لأحد أن تطرق إليها خاصة بعد جائحة كورونا، الإطار الرومانسي الأكشن التشويقي الغريب هو ميزة الفيلم التي يتفرد بها، إضافة إلى علاقة الشخصيات الغريبة بعضها بعضا، التي تجعل المشاهد في دهشة من أمره، لا يتوقع الأحداث ولا يعرف كيف يمكن أن تكون النهاية. ويجوز القول إن المشاهد قبل الفيلم ليس نفسه بعد مشاهدته، كونه يطرح عديدا من الرسائل الاجتماعية والإنسانية في إطار رومانسي كوميدي درامي وبأسلوب مختلف.