الإبل .. مستودع التاريخ واقتصاد بالمليارات
ماذا تعني الإبل للسعوديين؟ سؤال رددته كثيرا الدكتورة لورا ستراشان، الأستاذة المساعدة بقسم العلوم الإنسانية والاجتماعية الأساسية في جامعة الأمير محمد بن فهد، ليس فقط لأن هذا جزء من طبيعة عملها الأكاديمي، لكن لأنها نادرا ما رأت شعوبا تفتخر باعتناق هويتها وتراثها مثل السعوديين، حتى حين وجدت نقوشا أثرية للإبل في مدينة الخبر، لم تسأل عن أصل النقوش قدر ما سألت أحد المرشدين السعوديين عن السؤال الذي حيرها، فأجابها: "رفيقة أرواحهم".
تلك القصة الحقيقية التي روتها ستراشان في مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل عام 2018، لم تكن مجرد تعبير بلاغي من مرشد سياحي سعودي يفتخر بتراثه، لكنها الحقيقة التي وصل إليها كل الأجانب الذين زاروا المملكة، وإن كان للمستشرق الإنجليزي وليم ثيسجير، الذي أقام في السعودية في الفترة (1936- 1950) ووقع في هواها حتى أطلقت عليه قبيلة الصيعر اسم "مبارك بن لندن"، النصيب الأكبر مع سفينة الصحراء الذي وصفها بأنها الشيء الوحيد الذي تجده في كل مكان، في موائد الطعام بلحمها اللذيذ، في حليبها الصحي المفيد، في تنقلات الناس، والأهم أنك بمجرد أن تراها تعرف أنك في السعودية.
لكن ما أثار اندهاش المستشرقين الأجانب، لم يكن غريبا على السعودية أصل العرب، إذ توضح المصادر التاريخية أن علاقة العربي بالإبل تعود إلى ثمانية آلاف عام، ولولاها لما كانت الحياة ممكنة في الجزيرة العربية، ومع ظهور الإسلام وتخليده للإبل في القرآن الكريم -بداية من ناقة صالح ووصولا إلى ضرب الأمثلة بها دليلا على روعة الخالق- تعززت مكانة الإبل في نفوس العرب، خاصة السعوديين، فصار امتلاكها غاية يسعى إليه الجميع، بل تسبب الغيرة أحيانا، فالشاعر والصحابي الجليل حسان بن ثابت، اعترف بأنه غار من الشاعر الشهير طرفة بن العبد، لأن النعمان بن المنذر ملك الحيرة منحه 100 من الإبل في ذلك الوقت.
وكما كانت الإبل سببا للحياة، فإن آل سعود ردوا لها الجميل، فرغم التطور الحضاري وظهور وسائل النقل الحديثة، ظلت للإبل مكانة خاصة، فاسم منقية الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- عرفت بـ"الريمات" وفيها ناقته الخاصة "الدويلع"، والملك سلمان -حفظه الله- سار على النهج نفسه أيضا، فحين خيم ذات مرة في منطقة روضة الخنفس أثناء شبابه طلب إرسال منقيته من "المجاهيم" المعروفة بندرتها، أما ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- فيمتلك نخبة من الإبل السعودية وتعرف بـ"الشرف".
هكذا ترسخت الإبل في الحياة السعودية على مدار عقود، لكن العقدين الماضيين كانا الأكثر تميزا، إذ تحولت الإبل إلى رمز وإرث ثقافي خاص بالمملكة التي تمتلك وحدها -بحسب الإحصاءات الرسمية- مليونا و800 ألف رأس من أفضل أنواع الإبل، ورقميا يبلغ عدد الإبل عالميا 35 مليونا، حصة المنطقة العربية فيها تصل إلى 17 مليونا، وتتصدر الصومال الدول بامتلاكها أكبر الأعداد، لكن تتفرد المملكة بأنها تمتلك الأجود.
وبالعودة إلى عام 2000، حيث انطلاق مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل، لأول مرة، وهو ما يعد بداية الاحتفاء بسفينة الصحراء بوصفها رمزا ثقافيا، إذ استهدف الكرنفال في أول نسخه تأصيل تراث الإبل وتعزيزه في الثقافة السعودية، واستمر الحال هادئا حتى عام 2017 الذي شهد عدة تغيرات كان من شأنها نقل ثقافة الإبل من مجرد إرث إلى رمز سعودي، وأحد أهم أشكال الهوية العربية والسعودية، ففي هذا العام أُسس نادي الإبل مستهدفا الحفاظ على الموروث الشعبي للإبل وتطوير كل ما يتعلق بها من خلال شكل منهجي ومدروس، بجانب رفع مستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية لمربي الإبل للعناية بها، ثم تنظيم المهرجانات والسباقات لتوسيع نطاق المشاركة عالميا بما يليق بمكانة المملكة.
في العام نفسه، صدر قرار مجلس الوزراء السعودي بتطوير مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل، ليتضمن فعاليات تشمل جميع الفئات، بجانب وضع جوائز مالية لمزايين الإبل وصلت إلى 250 مليون ريال، إضافة إلى منافسة جديدة هي سباقات الهجن، وما زاد الأمر تألقا تولي دارة الملك عبدالعزيز الإشراف والتنظيم للمهرجان الذي أضحى خلال أعوام قليلة ضمن الأهم عالميا فيما يخص الإبل، وبعد ذلك بعام في 2018 أُسس الاتحاد السعودي للهجن، الذي أطلق سباقات الهجن المشهورة في شبه الجزيرة العربية.
تلك الأحداث الثلاثة التي تزامنت، ومع الأعوام القليلة الماضية حدثت طفرة ليس فقط على المستوى الثقافي، يدلل على ذلك احتفال الإبل وملاكها بيوم التأسيس في نسخة مهرجان 2022، بعد أن أقرت الرياض 22 فبراير يوم ذكرى تأسيس الدولة السعودية. آنذاك ازدهرت الأزياء التراثية لما يرمز للثقافة السعودية، وحظيت الإبل بالنصيب الأكبر في تلك الأزياء للدرجة التي دفعت أصحاب المتاجر إلى التفنن في إبراز الإبل من خلال الملابس لترويج البضائع.
الازدهار الثقافي والاقتصادي للإبل لم يتوقف عند هذا الحد فقط، ففي عام 2021، وبحسب إحصائية وزارة البيئة والمياه والزراعة، فإن استخدام الإبل في الترويج للسياحة السعودية أسهم في زيادة حركة الزائرين الذين ضجوا من زحام المدن فاتجهوا إلى طبيعة المملكة الخلابة بجمالها الساحرة، أما نادي الإبل فأشار إلى أن القيمة السوقية للسعودية في 2023 وصلت إلى 50 مليار ريال متوقعا زيادة الرقم خلال الأعوام المقبلة، هذا بجانب ما بات يعرف باقتصادات الإبل والمقصود به كل ما يتعلق بسفينة الصحراء من إكسسوارات على غرار القلايد والأوشحة والجلال.
وفي الوقت الحالي تصدر شركة سواني، التابعة لصندوق الاستثمارات العامة، صناعات الإبل التحويلية وحليب الإبل السائل والمجفف إلى أكثر من 25 دولة في العالم، فضلا عن صناعة الملبوسات والحقائب من وبر الإبل وجلودها التي تستهدف المملكة أن يكون "علامة تجارية عالمية" خلال 15 عاما. أيضا أطلق الصندوق شركة نوق أول علامة تجارية سعودية تقدم منتجات ألبان الإبل الطازجة والطبيعية بمختلف النكهات كالشوكولاتة الداكنة. أخيرا، وافق مجلس الوزراء السعودي على تسمية 2024 بعام الإبل. وهو ما شاهدناه خلال الأيام الماضية في الصياهد التي شهدت إقبال الزوار والسياح على مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل هذا العام، على ذكريات صوت الفنان الراحل مطلق الذيابي:
«يالله أنا طالبك حمر هوى بالي
لا روح الجيش طفاح جنايبها».