رقمنة الصحافة رحلة نحو تحولات ثقافية جديدة
تبقى الكتابة الصحافية من أكثر الفنون عرضة للتطور، لارتباطها بتطور تكنولوجيا الاتصال، وتأثرها بأذواق القراء وطبيعة وسائل الإعلام، وقوالب المحتوى المتعددة، وفنياته وأساليبه المتنوعة. فجرى التمييز مبكرا في نصوصها بين الصحيفة والإذاعة والتلفزيون، فنص التلفزيون نص أعرج، ولا يكون حسنا إلا كذلك، ولا يكتمل إلا مع الصورة، فمتى كان مكتملا اعتدى عليها. أما النص الإذاعي، فالأصل فيه أن يمثل جسرا لغويا بين المذيع والمستمع، قوامه الوضوح والإيجاز والدقة والتشويق، مع التركيز على الوصف الدقيق، آخذا في الحسبان مختلف الفوارق بين المستمعين.
برز تمييز آخر -حديث نسبيا- في الكتابة بين الصحافة الورقية والصحافة الرقمية، فعلى الرغم من اشتراكهما في استهداف جمهور قارئ ومتعلم، يمتلك ذائقة اللغة والتعبير، بخلاف بقية الوسائل التي قد يكون جمهورها أميا (المستمع والمشاهد)، فالاختلاف قائم في نمط الكتابة التي تعتمد بالدرجة الأولى على الاقتصاد في اللغة. صحيح أن هذا المبدأ حاضر في جميع وسائل الإعلام (الصحيفة، الإذاعة، التلفزيون)، لكنه في الصحافة الرقمية أقوى، بالنظر إلى نوعية الوسيلة المستخدمة (شاشات ضوئية)، فقد أثبتت الدراسات أن القراءة في هذه الوسائل أبطأ بنسبة 25% مقارنة بالقراءة من الصحف الورقية.
تبقى الكتابة ركيزة أي عمل رقمي، فأي نشاط إعلامي (مقاطع فيديو، مقاطع صوتية، عروض تقديمية، إنفوجرافيك...) يمارس على شبكة الإنترنت، يعتمد في إعداده على نص قرائي أو سيناريو مكتوب. لذلك بات الاهتمام بها ضرورة ملحة، لضمان النجاح في بث رسالة إعلامية عابرة للحدود، في سوق تنافسية مفتوحة، بكل معاني الكلمة، قاعدتها جمهور رقمي غير محدد جغرافيا، أمامه خيارات لا متناهية، يؤدي بها النص أو الكاتب دورا جوهريا في إقناع المتلقي (قارئا أو مشاهدا) على استمرار القراءة أو المشاهدة.
مطلع عقد التسعينيات، عمل خبراء، يتقدمهم الدنماركي جاكوب نيليسن، على إنجاز دراسات سابرة لكل جوانب الصحافة الرقمية، فكانت النتيجة التأثير الواضح لنمط الكتابة على نوعية التصفح، فارتفعت قابلية الاستخدام للنص المكتوب باختصار بنسبة 58%، وبلغت نسبة 47% في النصوص القابلة للتصفح السريع، فيما انحصر عند 27% بالنسبة للنصوص المكتوبة بأسلوب موضوعي بعيدا عن القوالب الترويجية الشائعة على الإنترنت. لكن المثير حقا في هذه الدراسة، هو ارتفاع قابلية الاستخدام بنسبة 124%، عند المزج بين هذه الأنماط الثلاثة من الكتابة في الموقع ذاته.
تقضي القاعدة أن التقدم في مجال يكون على حساب آخر، إلا في الصحافة حيث يؤدي التطور إلى تشكيل أنماط جديدة تزيد صناعة الأخبار رواجا، وتضفي أهمية على سلعة المعلومة والخبر. ما سبق يجعل الرهان على عاتق أصحاب القلم لتطوير لغة إعلامية رقمية، تشق طريقا وسطا بين الأدب والعلم، تمتح من الأول جمالية الأسلوب، ومن الثاني دقة المعنى، مع السعي نحو ناصية اللغة، بعيدا عن التصنع والتكلف، فقد نقل الجاحظ عن عمر الشمري قوله: "الكلام إذا طال عرضت للمتكلم أسباب التكلف، ولا خير في شيء يأتيك به التكلف"، وفاء لقول أبي العتاهية: "وخير الكلام قليل الحروف... كثير القطوف بليغ الأثر".