القلق الأمريكي والإنتاج الاقتصادي الصيني "المفرط"

 أبدت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين مهارة فائقة في استخدام العيدان الصينية للأكل في زيارتها الأخيرة للصين، التي انتهت يوم الإثنين الماضي. لا أعلم ما كان الداعي أن تظهر الوزيرة، وهي تدير واحدة من أهم الوزارات الأمريكية، على الملأ شهيتها المفرطة في التهام وجبتها الصينية المفضلة بالعيدان الصينية. بيد أن قراءة نقدية مستفيضة لهذا الزيارة تلقي الضوء ليس على أهميتها ومفصليتها، بل على أن العالم على أعتاب حقبة تاريخية سنلحظ فيها انقلابا لكثير من المفاهيم الاقتصادية وكذلك تحولا في الطرائق الناعمة المتاحة أمام الصين للوصول ليس إلى القمة، بل إزاحة منافستها الأكبر عنها.
أظن، لأول مرة يصبح فيها الإنتاج الفائض أو الإنتاج المفرط overproduction قضية مصيرية في العلاقات بين عملاقين اقتصاديين في العالم لا ثالث لهما.
أي دارس للمبادئ الاقتصادية الأساسية يلحظ أن الإنتاج المفرط آفة اقتصادية في المفهوم الرأسمالي وله تبعات غير حميدة قد تؤدي بالمؤسسة أو الشركة التي تقع في شراكها الى الإفلاس والاضمحلال.
الإنتاج الفائض يعده علماء الاقتصاد واحدا من نحو سبع ممارسات اقتصادية غير حكيمة أضرارها قد لا تحتمل إن لم تتم معالجتها بسرعة.
لن ألج في شرح هذه الممارسات السبع، لكن الاقتصاد الرأسمالي الذي يشكل الربح الغاية التي تبرر وجوده، يخشى الإنتاج المفرط لأنه لا يكبح الربح فحسب، بل يقود الى  خسائر مادية وإسراف في الموارد وهبوط حاد في الأسعار، ما يجعل الصناعات المنافسة عقيمة الجدوى.
في الإمكان أن أسترسل في سرد ما يسببه الإنتاج المفرط لأي سلعة من سلبيات ومشكلات قد ترقى الى مآس اقتصادية أحيانا؛ ونظرة سريعة على منحنيات أسعار النفط تظهر ما يمكن أن تفعله التخمة في الإنتاج من هبوط حاد في الأسعار وما تجلبه من مشكلات عويصة لميزانيات الدول المنتجة.
والعلوم أو الأبحاث الاقتصادية التي تتناول الإنتاج المفرط أو التخمة في الإنتاج تشرح لنا بإسهاب ما قد يحدث للمؤسسات أو الشركات التي يفيض إنتاجها عن حاجة السوق، وهناك أيضا دراسات تتناول التخمة في أسواق النفط.
لكن الوضع في الحالة الصينية مختلف. نحن أمام عملاق اقتصادي له طاقة إنتاجية فظيعة ليس فقط لتلبية حاجة أكثر من مليار وأربعمائة مليون من مواطنيه الذين يشكلون أكثر من 18 % من سكان العالم بملياراته الثمانية، بل العالم برمته.
الحديث هنا ليس عن شركة أو مؤسسة أو بضاعة محددة معرضة للكساد نتيجة التخمة أو الإفراط في الإنتاج. نحن أمام عملاق اقتصادي ذي إمكانيات مهولة لإغراق الأسواق العالمية بشتى السلع. وهل هذه ظاهرة جديدة بالنسبة للصين؟ جواب هذا السؤال هو الذي يقلق الولايات المتحدة، وفي ظني يشكل السبب الرئيس للزيارة المحورية هذه لوزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين للصين.
لا يغرنكم ظاهر الزيارة الذي يشي بالمودة والحنكة السياسة مشفوعة بالبراعة الفائقة في استخدام العيدان الصينية للأكل. الصين ومنذ عقود لها فائض في الإنتاج ويشكل تصديره على الخصوص للولايات المتحدة والدول الرأسمالية الأخرى العمود الفقري لاقتصادها.
المشكلة التي تؤرق أمريكا ومعها دول أوروبا الغربية هي أن التخمة في الإنتاج، التي كانت وستبقى الميزة الرئيسة للاقتصاد الصيني، تختلف هذه المرة اختلافا جوهريا عن الإنتاج الصيني المفرط في السابق. قبل عقدين ونيف كانت السلع الصينية الرخيصة بصورة عامة مثار ازدراء ونكتة عندما مقارنتها بمثيلاتها الغربية.
الزيادة في عرض السلع المتوافرة للتصدير في الصين هذه المرة تأتي بعد أن ملكت الصين ناصية التكنولوجيا الغربية ذاتها وفاقتها أحيانا وصارت تنتج سلعا وفي حلقات كانت حكرا على الولايات المتحدة والغرب بمواصفات تفوق مثيلاتها الأمريكية أو الأوروبية، لا بل تبزها في كثير من الأحيان وبأسعار تنافسية لا مجال لمجاراتها.
وهذه السلع لها زبائنها ليس في الولايات المتحدة والغرب فحسب، بل على مستوى العالم؛ ومن ثم فإن أي غياب للسلع الصينية هذه وبأسعارها المغرية عن الأسواق قد يكون له أثر سلبي يفوق الأضرار التي ستلحق بالصين لو أوقفت التصدير.
حقبة تاريخية جديدة في الأفق، قراءتها تحتاج الى تأن من أصحاب الشأن، ولا سيما في دول الخليج العربي ذات الثراء الاستراتيجي لما يمكن أن تلعبه في المعادلات الجديدة في الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي