أوروبا بين "ماردَين"

"أوروبا تحتاج للنمو بوتيرة أسرع، وتطوير قدراتها أيضا"
باسكال دونوهو، رئيس مجموعة اليورو

محمد كركوتي
[email protected]

يصعب عدم ملاحظة المخاوف المتنامية في الاتحاد الأوروبي، بشأن التراجع الاقتصادي الواضح فيه، في سياق مواجهته لـ "الماردين" العالميين الولايات المتحدة والصين. هذا "الهم" ظهر في الواقع مطلع القرن الحالي، وتعمق أكثر بعد سلسلة من المشكلات الأوروبية والعالمية التي عصفت في هذه الكتلة، ولا تزال تعصف بها بصور مختلفة. من بينها تلك التي أوصلت بعض بلدان الاتحاد إلى حافة الانهيار في العقد الأول، إلى جانب الانعكاسات الخطيرة للمواجهات الجيوسياسية، والتي تتصدرها اليوم الحرب في أوكرانيا، بما في ذلك ارتفاع أسعار الطاقة بشكل لم تحتمله عديد من الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد، واضطرابات سلاسل التوريد، مع صعود لا يتوقف للدن العام، الذي تجاوز في عدد من بلدان الكتلة مستوى حجم ناتجها المحلي الإجمالي. وهذه نقطة محورية جدا، إذا ما عرفنا أن 20 دولة سجلت عجزا في الموازنة العامة في العام الماضي، وفق مكتب الإحصاء الأوروبي "يورستات".
المشاكل متعددة، بعضها آني، وبعضها الآخر يأخذ صفة شبه مستدامة، ويتطلب معالجة تحتاج لوقت لن يكون قصيرا، شرط أن تعزز حكومات الاتحاد الأوروبي آليات الإصلاحات، وحصر المشكلات واحتوائها، والانطلاق نحو آفاق تأخذ في الحسبان موقع الاتحاد، بين أكبر اقتصادين على الساحة الدولية. فالمسألة لا تتعلق فقط بمستوى الإنتاج وآفاق الابتكار، ودعم الصناعات والخدمات الأوروبية، وتحقيق مستوى مرضي من النمو، وخفض البطالة، وتطوير آليات اتخاذ القرار الاقتصادي، وغير ذلك من العوامل، بل تشمل أيضا جانبا مهما وحساسا، يختص في عدم المساواة ضمن النطاق القطري لعدد كبير من البلدان. ولأن الأمر كذلك، تشهد أغلبية دول الكتلة الأوروبية توترات اجتماعية متنامية، وتربك المشهد السياسي المحلي هنا وهناك، وتشجع وتيرة وصول الجهات المتطرفة والشعبوية إلى الناخب مباشرة.
يقبع الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي حاليا وراء الصين، بعد أن خرجت بريطانيا من الاتحاد. لكن بلا شك يستند هذا الاتحاد إلى ميزة مهمة للغاية ترتبط بحجم سوقه الذي يبلغ 450 مليون نسمة. هذا ما يمكن أن يعوض الأسواق التي يخسرها الاتحاد عالميا، ولا سيما في أعقاب ارتفاع أسعار الطاقة قبل أكثر من عامين. إلا أن المشكلة لا تنته هنا، لأن قدرات الكتلة الأوروبية تتراجع في السباق العالمي في مجالات متعددة، مثل الابتكار، والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والبطاريات المتطورة، بل وحتى الألواح الشمسية. وكل ما تحتاجه أوروبا الآن، وبصورة عاجلة، رصد الدعم الحكومي المكثف للصناعات، على غرار ما يحدث في عدد من البلدان المنافسة.
في المقابل يواصل الاقتصادين الأمريكي والصيني تماسكهما، بالرغم من النمو المنخفض فيهما، بسبب الأزمة العالمية الراهنة. فالكتلة الأوروبية لم تحقق على صعيد النمو أكثر من 0.4 % في العام الماضي، بينما سجل النمو في الولايات المتحدة 2.5 وفي الصين 5.2 % في العام المذكور. ما تحتاج إليه أوروبا فعلا هو التغيير الجذري في السياسات الاقتصادية تحديدا، خاصة أن الجهات الأخرى المنافسة لم تعد تلتزم بقواعد اللعبة التقليدية. والمشكلة في هذه النقطة، تكمن في اقتصاد أوروبا الذي يشابه في حجمه أكبر اقتصادين في العالم، لا يزال يعاني التجزئة، بصورة أو بأخرى، وهذا ما يسهم في تراجع قوة الاتحاد الأوروبي في المنافسة مع "الماردين" الاقتصاديين الأمريكي والصيني. دون أن ننسى، الأثر السلبي لغياب سوق مالية مدمجة تماما على ساحة الاتحاد. فهذه المهمة لا بد أن يتم وضعها ضمن الأولويات لاستعادة مكانة الاتحاد الأوروبي. إنها مهمة صعبة جدا، ولا يمكن أن تنجز إلا برؤى جديدة تناسب التحولات العالمية الراهنة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي