الحوكمة.. بين اليد الخفية والثقة الصفرية
عندما نتحدث عن الحوكمة، في أي مجال من مجالات الحياة، فنحن نتحدث عن جهة مسؤولة لديها أهداف وتوجهات، تضع على أساسها ضوابط للعمل، معززة بالتقنية عند الحاجة، وتسعى إلى تفعيل تنفيذ هذه الضوابط، في المجال الذي ترتبط به. وتعتمد قدرة مثل هذه الجهة على تنفيذ ما تضعه من ضوابط، على الأنظمة والصلاحيات الممنوحة لها من قبل التشريعات العامة، ذات العلاقة، على مستوى الدولة. وتهتم مثل هذه التشريعات العامة عادة بالأمن والأمان، والبنية الأساسية وخدماتها، وشؤون التنمية، والعدالة، والترابط الاجتماعي، وغير ذلك.
ومن أمثلة جهات الحوكمة في السعودية، في المجالات المُختلفة، الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة، والمركز الوطني للقياس والمعايرة، وهيئة الاتصالات والفضاء والتقنية، والهيئة الوطنية للأمن السيبراني، والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، وهيئة الحكومة الرقمية، وهيئة تقويم التعليم والتدريب، وغيرها في المجالات المُختلفة الأخرى.
ولعل بالإمكان النظر إلى الحوكمة من منظارين مُختلفين ومُتباعدين في التوجه. ينطلق أولهما من مبدأ "اليد الخفية Invisible hand" الذي طرحه العالم الإسكتلندي "آدم سميث Adam Smith" المُلقب بأبي الاقتصاد، في مجال الاقتصاد، في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، في كتابه "ثروة الأمم". يقول هذا المبدأ إن مصالح الناس، وتبادل ما يُقدمونه من معطيات فيما بينهم، على أساس هذه المصالح، في القطاعات الاقتصادية المُختلفة، تُنظم ذاتياً شؤون تعاملاتهم. ونتيجة لذلك يرى هذا المبدأ أن المُجتمعات تستطيع حوكمة شؤونها ذاتياً من خلال ضوابط تبرز تلقائياً، دون الحاجة إلى ضوابط إضافية خارجية. وإن احتاجت سيكون ذلك بحد أدنى منها يتمثل في التأكيد على العدالة، وسلامة سلوكيات التعامل بين الناس، واستقرار المُجتمع.
تكمن فائدة توجه "اليد الخفية" في تعزيز كفاءة العمل عبر توفير التكاليف الناجمة عن تنفيذ كثير من الضوابط التي قد توضع على التعاملات بين الناس. فتنفيذ مثل هذه الضوابط يستهلك من زمن العمل والإنتاج، وقد يُثير مقاومة العاملين، ليحد بالتأكيد من الإنتاجية. ويُضاف إلى ذلك حقيقة أن الضوابط، خصوصاً عندما تزداد عن حدود معقولة، يُمكن أن تحد من القدرة على التفكير خارج الصندوق، وإطلاق أفكار ابتكارية تسهم في التطوير وتفعيل التنمية. وتجدر الإشارة هُنا إلى أن لمبدأ اليد الخفية تعبير مواز باللغة الفرنسية يقول "دع العمل يسير Laissez-faire".
وننتقل إلى المنظار الآخر للحوكمة، ألا وهو "منظار الثقة الصفرية Zero-Trust"، وهو منظار أمني مطروح في مجال "أمن العالم السيبراني". ينطلق مبدأ هذا المنظار من ترقب جميع أشكال الأخطاء والأخطار واحتمالاتها، ويعمل على وضع ضوابط تسعى إلى مواجهتها جميعاً، بأساليب مُختلفة، مهما انخفض مستوى احتمال حدوثها، طالما أن هذا الحدوث يدخل في إطار مُمكن. وتكمن فائدة هذا المبدأ في تأمين "ثقة عالية" في بيئة العمل؛ وتتجلى مشاكله في ارتفاع تكاليف الضوابط المطلوبة، والحد من الإنتاجية. وتجدر الإشارة هُنا إلى حقيقة أن عشوائية الأخطار، وتعدد مصادرها، خصوصاً في العالم السيبراني، تمنع حتى ضوابط الثقة الصفرية من تحقيق كامل تطلعاتها.
لا شك أن مجالات الحياة المُختلفة تختلف أيضاً في مدى حاجة حوكمة كُل منها إلى ضوابط. فقد تراوح ضوابط المجالات المُختلفة بين ما يتوافق مع مبدأ اليد الخفية من جهة، ومبدأ الثقة الصفرية من جهة أخرى. فضوابط المجالات الأمنية، وكذلك ضوابط المجالات الحساسة الأخرى كالمجالات المالية، تستند عموماً إلى مبدأ "الثقة الصفرية". وقد تقترب المجالات المُتعلقة بمرجعية متطلبات السوق، مثل تجارة السلع المُختلفة، من مبدأ "اليد الخفية". وقد تتطلب المجالات المُتعلقة بإعداد الإنسان للعمل، مثل التعليم والتدريب مبدءاً وسطياً يتراوح بين مبدأ اليد الخفية الذي يُعزز الكفاءة ويُفعل الابتكار، ومبدأ الثقة الصفرية الذي يحرص على التنظيم والانتظام ويتوخى أعلى درجات الثقة.
هُناك، على أرض الواقع، معايير لضوابط حوكمة بعض المجالات على كُل من المستوى الدولي، وكذلك المستوى المحلي، كما أسلفنا. وهُناك أيضاً مجالات لا تحظى بمثل هذه المعايير. فإن وجدت مثل هذه المعايير في مجال ما، فلا بُد من التدقيق في أمر تنفيذها، والسعي إلى تحقيق التوازن بين مزايا ومشكلات مبدئي اليد الخفية والثقة الصفرية، فضلاً عن حقيقة أن المجالات المُختلفة في تطور مُستمر يُفترض الاستجابة لمعطياته تبعاً لتوجهات هذا المبدأ أو ذاك. أما في حال عدم وجود معايير محلية أو دولية لضوابط الحوكمة في مجالات أخرى، فلا بُد من وضع مثل هذه المعايير ومراجعتها أيضاً دورياً تبعاً للمتطلبات والمستجدات، ليس بغرض الاقتراب من هذا المبدأ أو ذاك، ولكن بهدف التوازن بينهما، بما يُحقق أفضل النتائج للمجال المطروح.