هل هناك شيء اسمه اقتصاد وحسب؟
عالم اليوم متشابك، ولم يعد فيه ما هو مثلا سياسة وحسب، واقتصاد وحسب، وتاريخ وحسب، وتكنولوجيا وحسب، وهلم جرا.
في الأروقة الأكاديمية يأخذ مصطلح interdisciplinarity مكانة مرموقة ومطلوبة في البحث العلمي. ويترجم المصطلح إلى العربية بطرائق شتى، بيد أن في رأيي المتواضع تكون عبارة "التداخل المعرفي" أو "التداخل بين الحقول المعرفية" أفضل ترجمة قريبة لمفهوم المصطلح الإنجليزي هذا.
ما معنى التداخل المعرفي؟ ببساطة، تعني أنه لم يعد لنا في الكم الهائل من المعارف التي تحتلنا اليوم شيء اسمه مثلا الاقتصاد فقط. أذكر الاقتصاد، لأنني كاتب عمود في جريدة اقتصادية أكن لها احتراما شديدا.
كل المعارف مهما كانت صارت متداخلة، بمعنى أننا نستوعب أي حقل إن لم يكن لنا إلمام بالحقول القريبة منه وحتى البعيدة.
وهل في إمكاننا الإلمام بأكثر من حقل معرفي؟ هذا سؤال عسير الجواب، لأن أي حقل معرفي مثل علم اللغة أو علم الاجتماع، أو علم الاقتصاد وغيرها يصعب على إنسان اليوم سبر أغواره.
حتى علوم الاتصال، التي هي حديثة العهد، فيها حاليا أكثر من 100 مجلة علمية، حسب إحصائية قمت بها قبل الشروع بكتابة هذا المقال. ولكن أظن أن العدد قد يكون أضعاف ذلك إن أخذنا في الحسبان كل النظم المعرفية التي تشكله، وهي عديدة.
ولهذا، في كثير من الأحيان نرى أن أكثر من عالم أو باحث من حقول معرفية مختلفة يشتركون في كتابة ورقة علمية.
في السابق، كان العلماء يكتبون في شتى الحقول، فترى العالم قد ألف في الأدب والطب والكيمياء والاقتصاد والفلك وغيره.
عالم اليوم هو عالم الاختصاص؛ ولكن علينا الحذر لأن لم تعد هناك ظاهرة في إمكاننا تفسيرها ضمن نطاق اختصاصنا المحدود.
لم أندهش عندما طلبت مني كلية العلوم الصحية في جامعتي السويدية إعداد مقرر خاص لهم عن تحليل الخطاب، أي اللغة، لأن الطبيب أو الممرض الذي يفشل في التحليل الوافي والشافي لما يقوله له العليل عن مرضه يكون مثل المختبر الذي يعطي نتائج خاطئة عند تحليل عينة من دم المريض.
تداخل العلوم معناه لن نفلح في تقديم تفسير صحيح لأي ظاهرة، خصوصا في العلوم الاجتماعية إن استندنا إلى اختصاصنا الدقيق وحسب.
وعلوم الاقتصاد تقع في منطقة رمادية بين العلوم الصرفة والعلوم الاجتماعية، بالطبع هناك من قد يختلف في هذا التوصيف، لكن إن كانت هناك علوم لا يتم استيعابها دون الاتكاء على المعارف الأخرى فهي علوم الاقتصاد.
يستقي علم الاقتصاد كثيرا من الفلسفة والفلاسفة، والاقتصاد الاشتراكي والاقتصاد الرأسمالي وما يضمانه من مفاهيم ما هما إلا نتاج وانعكاس لطروحات فلسفية لكبار المفكرين في العالم. لذا، من العسر في مكان فهم كيف تعمل الرأسمالية مثلا إن لم نستوعب الأفكار والطروحات التي أتى بها كبار مفكريها وفلاسفتها. والشيء ذاته يُطبَّق على الاشتراكية.
ولأن الحيز الذي تخصصه جريدة الاقتصادية لي لا يتجاوز 500 كلمة، لن يكون بمقدوري تقديم مقتضب عن كبار مفكري النهج الاقتصادي الاشتراكي أو النهج الاقتصادي الرأسمالي، لكن ما أرمي إليه أن الفلسفة كحقل معرفي ذات أهمية بالغة للاقتصاد وعلومه.
ولأن الاقتصاد يتدخل في كل ركن وزاوية كبيرة وصغيرة من حياتنا ووجودنا، فإن ميولنا الثقافية مثلا لها شأن كبير في الاقتصاد، وبعض جذور الرأسمالية، وهذا ربما لا نركز عليه كثيرا وهذا خطأ لأسباب دينية في الغرب ولها علاقة مباشرة مع الإصلاح الديني والحركة البروتستانيتة.
وهناك كثير ما يمكن أن يقال عن سعة هذا العلم، الذي أراه واحدا من أهم المعارف الإنسانية اليوم. إنه الاقتصاد يا صاحبي، أي إنه العمل والممارسة التي تلجأ إليها الدول والمؤسسات وكذلك الأفراد في أغلب نشاطاتها إن كانت ذات طابع اقتصادي صرف أم لا.
وأخيرا، وكي لا أعبر سقف الكلمات المسموح لي، أقول إن كثيرا من النظريات الاقتصادية مستقاة من المفاهيم الفكرية المتوافرة في العلوم الاجتماعية، وكثيرا من التطبيقات الاقتصادية مستقاة من علوم مثل الرياضيات والحساب والإحصاء وغيره.