الإبحار عبر الأسواق المالية الهائجة
باتت العلامات التي تدل على نشوء فقاعات في الأسواق المالية واضحة للعيان. فأخيرا، تجاوز مؤشر داو جونز 40 ألف نقطة لأول مرة، كما بلغ مؤشر فاينانشيال تايمز 100 في المملكة المتحدة ومؤشر CAC 40 في فرنسا مستويات مرتفعة جديدة. وتُـتَـداول نسب سعر التسليم الآجل إلى الأرباح في الولايات المتحدة عند مضاعف يبلغ نحو 25 ــ وهذا أعلى كثيرا من المتوسط التاريخي الذي بلغ 16 ــ واستمرت هذه التقييمات المرتفعة على الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة إلى ما يزيد على 5 %.
من المؤكد أن مثل هذه الاتجاهات تبرر المخاوف بشأن فقاعات جديدة في أسواق الأسهم. لكن الفقاعات ليست كلها متساوية، فبعضها فقط يمثل مشكلة صعبة للاقتصاد في عموم الأمر.
من منظور الاستثمار، من الممكن أن يزودنا عاملان بوظيفة الإنذار المبكر حول مكان وزمان الانفجار المحتمل لفقاعة ما، وما إذا كان ذلك الانفجار ليتبعه تصحيح في السوق أو أزمة اقتصادية أوسع انتشارا. يتمثل العامل الأول في قيمة الأصل الأساسية أو الجوهرية (سواء كان مُـنـتِـجا أو غير مُـنتِـج)؛ ويتعلق العامل الثاني بكيفية تمويل ذلك الأصل (سواء من خلال الأسهم أو الأموال النقدية أو قدر كبير من الروافع المالية).
باستخدام هذا الإطار المكون من عاملين، يمكننا تقييم 4 أنواع من الفقاعات.
النوع الأول ــ وهو الأقل خطورة على الاقتصاد الأعرض ــ ينطوي على أصول إنتاجية تُـمَـوَّل في المقام الأول من خلال الأسهم أو الأموال النقدية لدى المستثمرين. لنتأمل هنا استثمارا في الأسهم في شركة اتصالات أو شركة لتصنيع كابلات النطاق العريض. إذا انفجرت الفقاعة، فسيجري احتواء رأس المال المفقود بدرجة كبيرة أو حصره بين المستثمرين المباشرين (حاملي الأسهم)، دون أن يترتب على ذلك قدر كبير من انتشار التأثيرات الجانبية للاقتصاد الأعرض.
أما الفئة الثانية فهي فقاعة الأصول الإنتاجية الممولة بالاستدانة، كما يحدث عندما تتحمل الشركات الديون لتمويل عملياتها أو لتظل مستمرة وناجحة. في هذه الحالة، قد يخلف انفجار الفقاعة تأثيرات جهازية، لأن الخسائر الكبيرة سيتردد صداها عبر النظام المصرفي أو أسواق رأس المال، لتؤدي في نهاية المطاف إلى إبطاء التعافي الاقتصادي مع عمل المؤسسات المالية على تجاوز خسائرها وتقليص الإقراض. لكن الخسائر التي قد تلحق بالاقتصاد ستكون محدودة، لأن هذا السيناريو لا يزال ينطوي على أصول إنتاجية.
في السيناريو الثالث، تُـمَـوَّل الأصول غير المنتجة بالأسهم أو الأموال النقدية، كما هي الحال في كثير من الاستثمار في العملات الرقمية المشفرة. هنا، يكون الأصل الأساسي غير منتج بمعنى أنه لن يدر تدفقات من الأموال النقدية في المستقبل. وإذا انخفضت قيمته، فلن يتوافر أساس جوهري ــ تجاري أو مالي، مثل الأصول الملموسة ــ يمكنه التعافي منه. يقودنا هذا إلى الأصول غير المنتجة الممولة بالاستدانة. المثال الرئيس هنا هو أزمة الرهن العقاري الثانوي التي اندلعت في الفترة 2008-2009.
في الأسواق المالية اليوم، نستطيع أن نجد جيوبا من الأصول عالية الاستدانة، التي يسعنا أن نقول إنها غير مُـنـتِـجة. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن كثيرا من هذه الجيوب تقع خارج نطاق الرقابة التنظيمية. على سبيل المثال، نحو 70 % من القروض والرهن العقاري الممول بالاستدانة في الولايات المتحدة تُدار الآن في قطاع الظل المصرفي، حيث تتحمل المؤسسات الديون وتوفر التمويل من دون الخضوع للضوابط التنفيذية المصرفية التقليدية، ومن دون اللجوء إلى مرافق الإنقاذ الفيدرالية الطارئة في حال نقص السيولة أو الإفلاس.
من الواضح أن هذه الاستثمارات تنطوي على أخطار بسبب تعرضها للديون، ويظل من غير الواضح ما إذا كانت مدعومة بأصول مُـنتِـجة أو غير مُـنـتِـجة. ولأنها تقع ضمن قطاع الظل المصرفي، فإن الرؤية أقل وضوحا بدرجة كبيرة فيما يتصل ببنية رأس المال (طبيعة ومصادر رأس المال المستخدم لتمويل الاستثمارات).
الحق أن النظام الذي يفتقر إلى رؤية واضحة فيما يتصل بالمصادر وأشكال رأس المال التي تقوم عليها استثمارات عديدة يُـعَـد نظاما محفوفا بالأخطار. والتدقيق الأكثر صرامة في الأصول غير الـمُـنـتِـجة الممولة بالاستدانة أمر بالغ الأهمية لتجنب أزمة مالية.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.