العالم وحقبة تسليح المعلومات والمعارف
نسمع كثيرا عن تسليح الجيوش، أي تزويدها بالمعدات والأسلحة العسكرية من مدافع ودبابات وطائرات وفرقاطات وغيره من العتاد.
وهذا في العرف العسكري والاقتصادي يدلل على أن التسليح تقليدي، بمعنى أن العتاد لا يشمل أسلحة الدمار الشامل مثل القنابل النووية، التي تحرم الدول المنتجة لها تصديرها.
ويعد تجهيز الجيوش بالعتاد والمؤن من الأمور ذات العلاقة المباشرة ليس بالاقتصاد بل بحلقة الإنتاج الاقتصادي برمته والحروب، رغم الأهوال التي تسببها، وقد تكون ذات مردود اقتصادي.
يزداد الطلب على الأسلحة والعتاد والمؤن ذات العلاقة أثناء الحروب، ما يؤدي بدوره إلى نمو مطرد في التشغيل والإيراد والأرباح للشركات المعنية.
هذا باب اقتصادي له نظرياته ومنهجيته الخاصة به. انظر مثلا، المعونات العسكرية الكبرى التي تقدمها الولايات المتحدة لحلفائها في العالم، حيث أساسا تدور في حلقة الإنتاج العسكري لشركات السلاح الأمريكية العملاقة، المستفيدة الأولى من المعونات هذه.
نترك العجلة الاقتصادية للتسليح جانبا على أمل العودة إليها في المقبل من الأيام، ونركز اهتمامنا على ما يحدث حاليا في مضمار إنتاج العتاد العسكري الذي دخل عهدا جديدا لم نألفه من قبل.
تحاول الأمم توظيف ما تملكه من ثروات ومواهب علمية ومعرفية خدمة لأغراضها وإستراتيجياتها ويأتي تسليح الجيوش في مقدمتها.
فمصطلح "تسليح الدولار" مصطلح شائع وهو ليس مجرد خطاب لغوي، بل تسير به الولايات المتحدة إلى أقصى ما يمكن للنيل من مناوئها. سلاح الحصار الاقتصادي من أفتك الأسلحة التي في يد الولايات المتحدة ولا تتوانى عن استخدامه.
بيد أننا نشهد تسليحا لقيمة أو ميزة أخرى تملكها الولايات المتحدة ودول قليلة أخرى لكن بمستويات أقل ميزة، صارت من أشرس الأسلحة المتاحة لها في عصرنا هذا.
يرى المحللون أن الولايات المتحدة مثلا دخلت عهدا جديدا في التسليح، وستكون له تبعات كبرى على الحروب في المستقبل، وأسس هذا النمط من التسليح، الذي يستند بصورة مباشرة إلى ما تملكه من معرفة ومعلومات وبيانات مهولة عن العالم ودوله ومناطقه، وقد يصل الأمر حتى إلى قاطنيه، رغم أن تعداد سكان الأرض يتجاوز 7.9 مليار نسمة.
إن تطويع البيانات الكبرى -التي لم يعد أمر الحصول عليها عسيرا خوارزميا للأغراض العسكرية- صار أعتى سلاح في عصرنا هذا ولم تعرف البشرية له مثيلا فتكا وإيلاما.
لم يعد السلاح التقليدي ذا فاعلية إن لم تتم خورزمته، أي ربطه بالبيانات الكبرى التي تجمعها الأجهزة الذكية، ومن ثم تجري غربلتها بسرعة فائقة للحصول على الهدف المراد ضربه.
وخطورة استخدام البيانات أو المعلومات الكبرى مع المعرفة الخوارزمية التي ترتبط بها سلاحا تأتي من أنه ليس بمقدور أيا كان في عالم اليوم -في الأقل حتى الآن- الحصول على الأدوات التي تجمع البيانات وتقوم بغربلتها. هذا السلاح البتار لا تمتلك ناصيته إلا دول عددها أقل من أصابع اليد الواحدة.
وانظر كيف يتم تطويع كل صناعة جديدة لجمع البيانات إن كانت وسائل التواصل أو هاتفا نقالا أو بطاقة ائتمان أو الوجود في أماكن عامة، حتى وصل الأمر إلى استخدام الكهرباء أو أي جهاز كهربائي فيه رقيقة ذكية لهذا الغرض.
وجمع البيانات الكبرى لا يحتاج إلى جهد كبير، لأننا في الواقع نمنح كل بياناتنا طوعا إلى مشغلي الأجهزة الذكية أو أي ماكينة كهربائية حديثة.
بيانات كبرى تصل تباعا إلى الدول القليلة التي تتحكم في الأجهزة الخوارزمية وأغلبها تصل دون معاناة أو بذل جهد من قبلها، وقلما نتذكر أن المعلومة اليوم صارت سلاحا غير تقليدي إن جرت خورزمتها.
في السابق كان حتى الضعفاء من الناس بإمكانهم دحر جيوش مدججة بأفتك الأسلحة التقليدية، لكن يبدو أن سلاح المعلومة والبيانات الكبرى سلاح من العسر دحره.