مهنة القواعد المقلوبة

كثيرة هي العبارات التي يستخدمها الناس والباحثون لوصف مهنة الصحافة أو الإعلام. البعض يقول إنها "مهنة المتاعب" أو "مهنة من لا مهنة له" أو "مهنة صناعة عدم الصدق" أو "الصحافة مهنة نبيلة" أو "الصحافة مهنة البحث عن المتاعب" أو "الصحافة مهنة ورسالة وأخلاق في آن واحد" وهلم جرا.
أغلب هذه التوصيفات يطلقها المتلقون للمحتوى الصحافي أو الإعلامي وبعضها شائع بين ممارسي الصحافة والإعلام.
قد نتفق كلنا على متانة منتج صناعي وإن ظهرت فيه أي عيوب تهرع الشركة المنتجة إلى الاعتذار وتصحيح العيب والتعويض عن الضرر.
ولكن من النادر أن نتفق على محتوى صحافي أو إعلامي حول تغطية حدث ما. خذ جهاز الآيفون، المنتج الخوارزمي الساحر، وترى أنه يحمل الخصائص ذاتها إن كان مصدره الصين أو سنغافورة أو أمريكا.
خذ المحتوى الذي تقدمه الصحافة أو الإعلام عن الأحداث التي تجري في عالم اليوم وترى العجب العجاب. هذا المحتوى سيكون مختلفا ليس باختلاف البلدان، بل باختلاف الوسائل التي تنتجها والميول التي تتحكم فيه.
في علوم الاتصال والصحافة –بالمناسبة الصحافة تدرس في الجامعات على أساس أنها علم قائم بذاته– تأتي الرصانة والنزاهة والاستقلالية والموضوعية والأخلاق المهنية في مقدمة المادة العلمية التي تقدمها المناهج التدريسية للطلبة.
وتذهب بعض المناهج بعيدا، حيث تقدم ما يرقى إلى معادلات حسابية لإنتاج محتوى نزيه وموضوعي خال من إقحام الميول والمشاعر والمواقف المسبقة فيه.
أما الأبحاث والدراسات حول الصحافة والإعلام فهي متشعبة وكثيرة، هناك مئات الدوريات العلمية التي تعنى حاليا بشؤون الاتصال والصحافة والإعلام.
بيد أن ما يميز أغلب الأبحاث هذه وعلى الخصوص عند تحليلها للمحتوى الصحافي والإعلامي، هو الخلاصات التي تقدمها، وفيها نلحظ أن القواعد المهنية التي ينفق الأساتذة والأكاديميون أعمارهم في تدريسها والبحث فيها، تأتي في أغلب الأحيان وهي مقلوبة على عقيبيها.
هناك توهيم يعيشه الإعلام في عصرنا هذا، حيث تتشبث قمة الهرم فيه بترديد عبارات طنانة من أن المحتوى نزيه وموضوعي ذو مهنية عالية وينم عن خلق مهني رفيع.
هذه قراءة وممارسة عرجاء للمزامير التي تلقنها كليات وفروع الإعلام والصحافة في الجامعات لطلبتها. مناهج الصحافة والإعلام في الجامعات فيها من الرصانة العلمية، ما يوازي الرصانة في أي فرع معرفي آخر.
ولكن هناك إشكالية كبيرة عندما يتعلق الأمر بالخطاب الإعلامي، الذي ترى فيه الدول والسلطات والمؤسسات أنه سلاح بتار كشأن أي سلاح في يد العسكر، حيث يجب توجيه هذا السلاح صوب صدر الأعداء وليس الأصدقاء.
الجامعات تلقن الطلبة قواعد مهنية لكتابة وتقديم محتوى يقدم الأحداث كما هي، وليس كما تراها أعيننا وميولنا. يغيب عن الجامعات أن قول الشيء كما هو يقع في أغلب الأحيان في باب المحرمات أو باب المستحيل، لأننا نقول الأشياء كما نراها نحن، وليس كما ترى الأشياء ذاتها.
الأخبار مثلا تعكس التوهيمات التي لدى المحررين. والمحرورن بدورهم يتلقونها من السلطة التي يعملون في ظلها، هذه فرضية لا تخص بلدا محددا أو منطقة محددة أو وسيلة إعلامية محددة. إنها ترقى إلى درجة قاعدة ثابتة جرى التحقق منها في كثير من الأبحاث والدراسات.
وتتجلى هذه الفرضية أكثر ما تتجلى في المحتوى الصحافي أو الإعلامي، الذي يتناول قضايا وأحداث ومسائل ذات علاقة بالميول الذي يتحكم فينا - ومتى كان الإنسان طليقا وحرا بقدر تعلق الأمر بميوله؟
نحن نتماهى مع السردية التي توائم ميولنا ومنطلقاتنا، ولا سيما في الخطاب الإعلامي، وهنا لا تمييز البتة إن كان مصدر الخطاب العالم الأول أو الثاني أو الثالث - الكل ينطلق من ميوله في عالم لم يكن للميول فيه تأثير في الخطاب بهذا الحجم كما هو اليوم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي