توسع المدن والتبعات الاقتصادية
يقول العلامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع في كتابه القيم "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر: "إن المدن العمرانية تتوجه شمالاً أثناء توسعها"، ومن أهم الأسباب كون الهواء يأتي عادة من الشمال. نحن نرى ذلك عادة وعبر القرون في المدن الكبرى والصغرى. الاستثناء للمدن التي تجبرها التضاريس الجغرافية على عدم التمدد شمالا. وبالعكس، في الأغلب أن المصانع والخدمات في جنوب المدن.
ما العوامل التي تساعد على توسع المدن مع الوقت؟ وسؤال عكسي. ما العوامل التي تساعد أو تعمل على الحد من توسع المدن؟
يلاحظ أن بعض المدن تنمو وتسمن كثيرا مع مرور السنين. ويلاحظ أنه كثيرا ما يتجمع أصحاب نشاط أو صنعة في شارع أو جهة من حي من الأحياء.
هناك أنواع من التجمعات، ربما أشهرها التجمعات الحضرية (المدن) والتجمعات الصناعية (المدن الصناعية). طبعا يجني الناس منافع من تجمعهم. سينتفعون من بنية تحتية مشتركة وتوفر فرص عمل وأسواقا أكثر تنافسية. وهناك منافع أخرى كثيرة لا يتيح المقام تعدادها، ولكنها لا تخفى على فطنة القارئ. في المقابل، توسع المدن لا يخلو من سلبيات، ربما على رأسها التضخم والازدحام. ولكن الرأي السائد أن التوسع أحسن كثيرا من عدمه. الموضوع يتطلب دراسات متخصصة متعددة تتناول مختلف الجوانب من هندسية واقتصادية واجتماعية وغيرها. مثلا، عملت دراسات عن العلاقة بين حجم المدينة وأسعار المساكن فيها. من هذه الدراسات:
House Prices, Bubbles and City Size, July 2010
By Mark J. P. M. Thissen and others.
وأعم وأوسع منها دراسة فرنسية لعدة باحثين فرنسيين أجريت عام 2011، عنوانها
The Costs of Agglomeration: Land Prices in French Cities
والترجمة: تكلفة التكتل: أسعار الأراضي في المدن الفرنسية
حاول المؤلفون تطوير طريقة لتقدير مدى مرونة تكلفة التحضر أي السكن في المدينة من زحام وارتفاع أسعار عقار وغير ذلك، مقارنة بعدد سكان المدن. أي مدى تأثر التكلفة بعدد سكان المدن. وأساس الفكرة أن التكلفة تزيد مع زيادة عدد السكان في المدينة. وقد بذل مؤلفو الدراسة جهودا كبيرة باستخدام أدوات ومعادلات تحليلية اقتصادية قياسية.
درس المؤلفون تأثر أجور أو رواتب الناس إلى عدد السكان في التجمعات الحضرية سواء كانت مدنا كبيرة أو صغيرة. من النتائج أن زيادة سكان المدن الصغيرة تدفع إلى زيادة الأجور، ولكن زيادة الأجور في المدن أقل من زيادة أضرار السكن بتلك المدن الكبيرة. كما لوحظ أنه في الأغلب أن نسبة ارتفاع أسعار الأراضي أقل من نسبة ارتفاع الأجور في المدن الصغيرة، وأعلى في المدن الكبيرة.
طبعا توسع أو سمنة المدن تصنع أثارا وتبعات اقتصادية غير ما سبق قوله. مستويات المهارات ومستوى النمو الاقتصادي وتوسع التقنية وخلافها كلها تتأثر إيجابيا من سمنة أو توسع المدن. ولكن أسعار المساكن تقف بالمرصاد لهذه الحسنات.
بصفة عامة، توسع المدن موضوع يعد من الموضوعات الشائكة والكبيرة متعددة الجوانب. وأكثر الناس متوقع أنهم مع التوسع والنمو السكاني والعمراني الكبير للمدن. الأسباب كثيرة كتوفير الوظائف والفرص التعليمية والتجارية وغيرها. وعلى الجانب الآخر، هناك من يرى العكس، بناء على اعتبارات.
ماذا يعني ما سبق؟
تتضارب عوامل تعمل على زيادة توسع المدن وعوامل تعمل على الحد من التوسع. مثلا ارتفاع أسعار العقار هو داء على كثيرين من جهة، وهو دواء للحد من سمنة المدن وكبرها من جهة أخرى.
طبعا توسع المدن يصنع أثارا وتبعات اقتصادية غير ما سبق قوله. مستويات المهارات ومستوى النمو الاقتصادي وتوسع التقنية وخلافها كلها تتأثر إيجابيا من توسع المدن. ولكن الزخم الاقتصادي التصاعدي وأسعار المساكن تقلل من قيمة هذه الإيجابيات. المطلوب التوجه نحو تحسين إيجابيات، وخفض سلبيات التوسع، قدر الإمكان. وبالله التوفيق.