هل للعولمة مستقبل؟

تشير العولمة ببساطة إلى الاتكالية المتبادلة على مسافات عابرة للقارات. فالتجارة بين الدول الأوروبية تعكس الاتكالية المتبادلة على المستوى الإقليمي، بينما تعكس التجارة الأوروبية مع الولايات المتحدة أو الصين العولمة.
يناقش أهل الاقتصاد المقدار من تلك الخسارة الذي كان راجعا إلى التجارة العالمية. وجدت بعض الدراسات أن ملايين الوظائف فُقدت، بسبب المنافسة الأجنبية، لكن هذا ليس السبب الوحيد. إذ يزعم كثيرون من أهل الاقتصاد أن العامل الأهم هو الأتمتة (التشغيل الآلي). مثل هذا التغيير من الممكن أن يعمل على تعزيز الإنتاجية الإجمالية، لكنه يتسبب أيضا في إحداث آلام اقتصادية، ويجد القادة الشعبويون أن إلقاء اللوم على الأجانب أسهل من لوم الآلات.
وهم يلقون باللائمة أيضا على المهاجرين، الذين قد يحملون فوائد للاقتصاد في الأمد البعيد، ولكن من السهل تصويرهم على أنهم سبب التغيير الهَدّام في الأمد القريب. ربما كانت هجرة البشر من قارة إفريقيا أول مثال على العولمة، وقد تكون الولايات المتحدة وبلدان أخرى عديدة نتيجة لذات الظاهرة الأساسية. ولكن أثناء بناء هذه البلدان، كثيرا ما اشتكى المهاجرون الأوائل من العبء الاقتصادي وعدم توافق الوافدين الجدد ثقافيا. ولا يزال هذا النمط مستمرا اليوم.

من الممكن عكس مسار العولمة الاقتصادية؟ لقد حدث ذلك من قبل. فقد اتسم القرن التاسع عشر بزيادة سريعة في كل من التجارة والهجرة، لكنها توقفت على نحو مفاجئ مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. ولم تتعاف التجارة كحصة من إجمالي الناتج العالمي إلى مستوياتها في 1914 حتى 1970 تقريبا.
والآن، بينما يدعو بعض السياسيين الأمريكيين إلى الانفصال الكامل عن الصين، فهل من الممكن أن يحدث هذا مرة أخرى؟ برغم أن المخاوف الأمنية قد تقلل من التجارة الثنائية، فإن التكلفة الباهظة المترتبة عل التخلي عن علاقة تزيد قيمتها عن نصف تريليون دولار سنويا تجعل من غير المرجح حدوث الانفصال. لكن "غير مرجح" ليست مثل "مستحيل".
على أي حال، تتطلب محاولة فهم مستقبل العولمة النظر إلى ما هو أبعد من الاقتصاد. إن أشكال الاتكالية المتبادلة العالمية الأخرى ــ العسكرية، والبيئية، والاجتماعية، والصحية، وغيرها ــ عديدة. وفي حين أن الحرب دائما ما تكون مدمرة للمتورطين فيها بشكل مباشر، فمن الجدير بنا أن نتذكر أن جائحة كوفيد-19 قتلت من الأمريكيين أكثر من أولئك الذين ماتوا في كل حروب أمريكا.
على نحو مماثل، يتوقع العلماء أن يكون لتغير المناخ تكاليف باهظة مع ذوبان القمم الجليدية العالمية وغرق المدن الساحلية في وقت لاحق من هذا القرن. وحتى في الأمد القريب، يزيد تغير المناخ من تواتر وشدة الأعاصير وحرائق الغابات. من عجيب المفارقات أننا ربما نكون بصدد الحد من نوع من العولمة له فوائد، بينما نفشل في التعامل مع أنواع لا تحمل سوى تكاليف. كانت واحدة من أولى خطوات إدارة ترمب الثانية سحب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس ومنظمة الصحة العالمية.
إذن، ما هو مستقبل العولمة؟ ستظل الاتكالية المتبادلة البعيد المدى حقيقة من حقائق الحياة ما دام البشر يتنقلون ومزودين بتكنولوجيات الاتصالات والنقل. ذلك أن جذور العولمة الاقتصادية تمتد عبر قرون من الزمن، وتضرب بجذورها إلى طرق التجارة القديمة مثل طريق الحرير (الذي اتخذته الصين شعارا لبرنامجها الاستثماري في البنية الأساسية "الحزام والطريق" الذي يمتد على مستوى العالم اليوم).
بدأ استخدام الإنترنت على نطاق واسع في بداية هذا القرن، والآن يحمل مليارات الأشخاص حول العالم في جيوبهم جهاز كمبيوتر كان ليملأ مبنى كبيرا قبل نصف قرن. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، سيزداد نطاق وسرعة وحجم الاتصالات العالمية بدرجة هائلة.
لقد عكست الحروب العالمية مسار العولمة الاقتصادية، وقد تتسبب سياسات الحماية في إبطائها، ولم تتمكن المؤسسات الدولية من مواكبة عدد كبير من التغيرات الجارية الآن. ولكن ما دمنا نملك التكنولوجيات، ستستمر العولمة. إلا أنها قد لا تكون من النوع المفيد.

خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.

www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي