هل تخفي أسعار الفحم المتدنية أزمة مقبلة في الإمدادات العالمية؟
أسعار الفحم العالمية المتراجعة هذه الأيام تخفي وراءها مستقبلاً مختلفاً تماماً لمصدر الطاقة الأكثر استهلاكاً في العالم.
تحوم عقود الفحم الحراري الأسترالية، وهي المعيار لآسيا، حول 100 دولار للطن نتيجة لشتاء معتدل وفائض في المعروض العالمي، وهو مستوى السعر المُسجل آخر مرة في مايو 2021، قبل الاضطرابات التي حدثت في سوق الطاقة في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا. وفي حين أن هذا يلحق الضرر بالمنتجين ويشجع مَن يتوقعون نهاية أكثر أنواع الوقود الأحفوري تلويثاً، إلا أنه قاع قد لا يدوم.
تضاءلت استثمارات الإنتاج الجديد في معظم أنحاء العالم، حيث يرفض المساهمون والبنوك بشكل متزايد الموافقة على ضخ أموال جديدة في المشاريع. ومع ذلك، يستمر الطلب في الارتفاع في الهند والصين، متجاوزاً معدلات التوسع السريعة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. في نفس الوقت، تتطلع حتى الدول المتقدمة إلى الفحم لمساعدتها في توفير الطاقة اللازمة لطفرة الذكاء الاصطناعي.
انتعاش متوقع للفحم
ينذر هذا المزيج بانتعاش حاد لتداول الفحم عالمياً، وهو ما يزيد من الضغوط الاقتصادية التي تشعر بها بالفعل الأسر والمصانع في الاقتصادات الناشئة، والتي لا تزال تعتمد بشكل كبير على هذا النوع من الوقود. كما أنه يمكن أن يجعل الفحم مربحاً لفترة أطول، مما قد يؤكد موقف أولئك الذين راهنوا على صمود الفحم رغم تهديده لأهداف المناخ.
قال غاري نيغل، الرئيس التنفيذي في "غلينكور" (Glencore)، خلال مكالمة لمناقشة النتائج المالية للشركة الشهر الماضي، "كان الكثير من شركائنا الذين يستحوذون على حصص أقلية في المشاريع المشتركة بجميع أنحاء العالم، وخاصة في أستراليا، يريدون التخارج من الفحم المولّد للبخار" موضحاً التزام شركة تداول السلع الأساسية والتعدين بالفحم وتحركها لشراء حصص شركائها في السنوات الأخيرة.
"في ذلك الوقت، كان الفحم كلمة من أربعة أحرف. لكنه يبدو في عالم اليوم، أنه لم يعد كلمة من أربعة أحرف".
تراجع الاستثمارات
نقص المعروض ليس أمراً صعب التفسير. قللت البنوك الإقراض لمشاريع الفحم، إما لأسباب أخلاقية أو بسبب مخاوف الممولين من تمويل أصول ستُغلَق قبل فترة طويلة من قدرتها على توليد عائد مربح. ومع ندرة كميات الفحم الجديدة الموجهة للنقل البحري، حيث تميل المناجم الجديدة إلى خدمة الطلب المحلي الهندي أو الصيني، يبدو نقص الإمدادات بالسوق على المدى المتوسط إلى الطويل أكبر مما توقعه الكثيرون.
حتى الأسعار العالية المسجلة عام 2022، بعد أن دخلت الدبابات الروسية إلى أوكرانيا المجاورة وجعلت أوروبا تتدافع للحصول على إمدادات بديلة للطاقة، لم تكن كافية لتشجيع المنتجين على بناء المشاريع الجديدة.
قال ستيف هالتون، نائب الرئيس الأول لأسواق الفحم في "ريستاد إنرجي": "ارتفاعات الأسعار السابقة كان من المفترض أن تحفز أو تشجع على إطلاق الكثير من المشاريع الجديدة. لم يحدث أي من ذلك. بل رأينا المزيد من اللاعبين يستغلون الفرصة للتخارج من حصصهم".
وأضاف أن شركات التعدين اختارت شراء حصص في المشاريع الحالية لا تطوير مشاريع جديدة.
وعلى مستوى العالم، اقترحت الشركات مشاريع جديدة من شأنها إنتاج نحو 1.8 مليار طن متري من الفحم الحراري سنوياً لتغذية محطات الكهرباء، ولكن 76% منها في الصين والهند. من بين 70 دولة ترصدها "جلوبال إنرجي مونيتور" (Global Energy Monitor)، 10 دول فقط لديها خطط لتعزيز الإنتاج بأكثر من 10 ملايين طن. معظمها لا يطور أي مناجم جديدة على الإطلاق.
من شأن ندرة المعروض وما سيتلو ذلك من اضطرابات وارتفاعات شديدة في الأسعار أن تسرع وتيرة تدمير الطلب في الأسواق الحساسة للأسعار، وهي أخبار جيدة للمناخ. لكنها تشير أيضاً إلى نهاية مضطربة للفحم، وليس إلى تراجع بطيء وثابت، وفقاً لروري سيمينغتون، المحلل في "وود ماكنزي" (Wood Mackenzie).
طلب متزايد
المشكلة هي أنه في الوقت الذي تم فيه تقييد المعروض، استمر الطلب في الارتفاع، بفعل الحاجة لإمداد ملايين المنازل بالكهرباء، وشحن السيارات ومع بناء المصانع. قفزة الطاقة الخضراء تقلل الحاجة إلى الوقود الأحفوري، لكن ليس بالقدر الكافي. في الهند وحدها، من المتوقع أن يرتفع الطلب على الفحم إلى 1.5 مليار طن بحلول العام المنتهي في مارس 2030، بزيادة بنحو 3% كل عام، وفقاً لتقديرات وزارة الفحم.
شركات التكنولوجيا تبني مراكز بيانات لدعم الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، وفوجئت العديد من شركات المرافق بهذا التحول وهي تعتمد الآن بشكل أكبر على الفحم للحفاظ على تدفق ما يكفي من الكهرباء عبر الشبكة. وفي الولايات المتحدة واليابان، يجري تمديد عمر المحطات التي كان من المقرر إغلاقها. وتتمسك ألمانيا بأسطول من محطات الفحم المتوقفة عن العمل كونها ستستغرق وقتاً أطول من المتوقع لبناء محطات الغاز الجديدة اللازمة بعد أن أغلقت البلاد آخر منشأة نووية لديها في عام 2023.
ليس من المستغرب إذن أن ترفع وكالة الطاقة الدولية توقعاتها للطلب على الفحم في آخر أربعة تقارير سنوية، كما تخلت عن وجهة نظرها بأن الطلب سيبلغ ذروته. ومن المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي بنسبة 1% حتى عام 2027، وفقاً لما ذكرته المنظمة في تقريرها الصادر في ديسمبر.
ارتفاع المخزونات
في الوقت الحالي، لا يوجد ما يدعو المنتجين للابتهاج. الصين، التي تستخرج وتستهلك نصف إنتاج العالم من الفحم، تواجه مخزونات متزايدة منذ بداية العام الماضي بعد أن قام المنتجون ومحطات الكهرباء بتخزين الفحم لتجنب تكرار نقص الطاقة الذي عانى منه الاقتصاد خلال عامي 2021 و2022.
ظلت حركة الشراء قوية نسبياً حتى نهاية العام الماضي حيث سعت الشركات إلى التحوط للطلب الشتوي. لكن الموسم كان معتدلاً وتباطأ الطلب الصناعي على الكهرباء، ما أدى إلى تضخم المخزونات. قدّر مزود معلومات القطاع "تشاينا كول ريسورس" (China Coal Resource) أن إجمالي المخزونات ارتفع إلى 665 مليون طن بحلول نهاية ديسمبر، بزيادة 21% عن العام السابق، وهو ما يكفي لتلبية احتياجات البلاد لأكثر من شهر.
توقفت شركة "تشاينا شينهوا إنرجي" (China Shenhua Energ)، وهي وحدة تابعة لأكبر شركة فحم في البلاد، عن شراء شحنات الفحم الأجنبية من السوق الفورية في سعيها إلى تقليص مخزونات الموانئ المرتفعة واستخدام الإنتاج المحلي. دعت أكبر رابطة معنية بصناعة الفحم في الصين الشركات إلى تعديل إنتاجها بهدف منع حدوث تخمة "مفرطة" في المعروض في ظل الأسعار المتراجعة.
كذلك، شهدت اليابان وكوريا الجنوبية شتاءً معتدلاً نسبياً، ما ساهم في إبقاء الطلب بشمال آسيا تحت السيطرة.
قال سيمينغتون من "وود ماكنزي": "مررنا بفترة من عمليات الشراء القوية، ثم جاء الشتاء معتدلاً، والآن أصبحت المخزونات ممتلئة في كل مكان".
هدوء الأسعار لن يدوم
من المرجح ألا يدوم الهدوء طويلاً. فقد يقلب الطقس الحار الصورة بشكل سريع مع ارتفاع الطلب على تكييف الهواء. يستمر الطلب الصيني على الفحم في الارتفاع، حيث تتوقع وكالة الطاقة الدولية زيادة بنسبة 1.3% حتى عام 2027. وكانت المنظمة تتوقع في السابق أن يصل الطلب الصيني إلى ذروته في عام 2023.
وقال سيمينغتون إنه مع انخفاض أسعار الفحم في نيوكاسل، أصبح نحو 10% من مناجم التصدير لا تحقيق أرباحاً عندما ينخفض السعر إلى ما دون 110 دولارات للطن. ومن المرجح أن توقف بعض هذه المناجم إنتاجها، وهو ما من شأنه أن يوفر دعماً إضافياً مؤقتاً للأسعار.
وقال سيمينغتون: "هناك ضغوط هيكلية، لا شك في ذلك. ولكن حتى الآن، النمو الإجمالي للطلب على الطاقة يعني أن معدل استهلاك الفحم لا يزال قادراً على النمو".