"الديون الخفية" في الصين ما هي؟ وكم حجم المبلغ المطلوب لإنهائها؟
أنفقت الحكومة الصينية ما لا يقل عن 3 تريليونات يوان (408 مليارات دولار) خلال الأشهر الستة الماضية لتمويل حكوماتها المحلية المثقلة بالديون.
وتندرج هذه الخطوة ضمن حزمة تحفيزية ضخمة أعلنت عنها بكين في نوفمبر 2024، تبلغ قيمتها الإجمالية 12 تريليون يوان، وتُعد الأكبر في تاريخ الصين فيما يتعلق بالسياسات الموجهة للحكومات المحلية. وتركز بشكل خاص على معالجة "الديون الخفية"، أي الالتزامات المالية غير المدرجة ضمن الميزانية العمومية للسلطات المحلية.
تتضمن الحزمة توسيع سقف مخصصات الديون الخاصة للحكومات المحلية بمقدار 6 تريليونات يوان تُنفذ على مدى 3 أعوام، إلى جانب إصدار ديون جديدة بقيمة 800 مليار يوان سنوياً خلال الأعوام الخمسة المقبلة. وتهدف هذه الإجراءات إلى تمكين الحكومات المحلية من مواجهة الفوائد المتزايدة على ديونها.
أسهم الدعم المالي المقدم من بكين في تعزيز ثقة المستثمرين، ودفعهم للإقبال بقوة على أحد ركائز سوق الديون في الصين، والمعروف باسم "أدوات تمويل الحكومة المحلية" (LGFVs)، سعياً إلى الاستفادة من هذه التحركات.
وبالنظر إلى الدور المحوري الذي تقوم به الحكومات المحلية في دفع عجلة الاقتصاد، فإن نجاح هذه التدابير يصبح أكثر أهمية في ظل تصاعد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، واحتمالية تعثر هدف الحكومة لتحقيق نمو قدره 5% في الناتج المحلي الإجمالي.
لماذا تواجه الحكومات المحلية عبئاً ضخماً من الديون؟
لطالما اعتمدت السلطات المحلية والإقليمية في الصين على عائدات بيع الأراضي العامة للمطورين العقاريين كمصدر أساسي للإيرادات. لذلك، عندما فرضت الحكومة في 2020 قيوداً على اقتراض المطورين العقاريين المثقلين بالديون، ما أدى إلى ركود كبير في سوق العقارات، تعرضت السلطات المحلية لضربة قوية نتيجة انخفاض إيراداتها بشكل حاد.
ومع الزيادة الكبيرة في الإنفاق العام لمواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19، أصبحت أغلبية الحكومات الإقليمية تعاني ضغوطا مالية خانقة.
ونتيجة لذلك، اتجهت الحكومات المحلية بشكل متزايد نحو سوق السندات كمصدر بديل للتمويل. فقد بدأت في "اقتراض" الأموال من المستثمرين عبر إصدار سندات، وهي أوراق مالية قابلة للتداول تتيح للمستثمرين الحصول على فوائد.
حتى 2014، كانت القوانين الصينية تمنع المقاطعات من الاقتراض المباشر من البنوك أو إصدار السندات في السوق المفتوحة. ولمواجهة هذه القيود، أنشأت الحكومة المركزية في أوائل التسعينيات ما يُعرف بـ "أدوات تمويل الحكومة المحلية"، وهي كيانات مالية سُمح لها بجمع التمويل نيابة عن الحكومات المحلية بهدف تنفيذ مشاريع البنية التحتية.
احتفظت هذه الأدوات بشعبيتها حتى بعد رفع الحظر، فقد واصلت جمع الأموال من خلال إصدار السندات بوتيرة متزايدة منذ الأزمة المالية في 2008، وارتفع حجم الديون التي تكبدتها بشكل هائل خلال العقد الماضي.
كيف تعمل أدوات تمويل الحكومة المحلية؟
تُعد أدوات تمويل الحكومة المحلية أدوات استثمارية خارج الميزانية العمومية تلجأ إليها الحكومات المحلية في الصين لتمويل مشاريعها. وعلى الرغم من أنها تُدار نظرياً بشكل مستقل عن الحكومات المحلية، إلا أنها تستمد مصداقيتها منها نظراً لاعتقاد راسخ بأن الحكومة المركزية في بكين ستتدخل لدعمها في حال تعرضت لأي أزمة.
غالباً ما تعتمد هذه الأدوات على جمع الأموال من مستثمرين مؤسسيين صينيين، إذ ينظر المستثمرون الأجانب إليها على أنها تفتقر إلى مستويات الشفافية المالية المطلوبة للاستثمار فيها. وتُستخدم هذه الأموال المجمعة في تمويل مشاريع بنية تحتية مثل بناء الطرق والجسور ومحطات تنقية المياه. لكن هذه المشاريع عادةً ما تستغرق وقتاً طويلاً لإنجازها، ونادراً ما تُحقق عوائد مالية كافية لسداد الديون المترتبة عليها.
ونتيجة لذلك، تعتمد أغلبية أدوات تمويل الحكومة المحلية على الدعم المالي من مختلف مستويات الحكومة لتعويض خسائرها التشغيلية والحفاظ على ملاءتها المالية.
لماذا قررت الحكومة التدخل الآن؟
تمتلك أدوات تمويل الحكومة المحلية حالياً نحو 15.8 تريليون يوان من السندات المحلية القائمة منذ بداية هذا العام حتى الآن، وفقاً لبيانات جمعتها "بلومبرغ". وهذا يشكل قرابة 41% من سوق السندات الخاصة بالشركات غير المالية في الصين.
ورغم عدم تسجيل أي حالات تخلف عن السداد حتى الآن، إلا أن مؤشرات الضغوط المالية بدأت تظهر بوضوح، إذ اضطرت بعض الأدوات إلى سداد التزاماتها في اللحظات الأخيرة.
كما شهدت الأشهر التسعة الأولى من 2024 زيادة 20% في حالات التعثر أو تحذيرات من التعثر مرتبطة بأدوات تمويل الحكومة المحلية على "أدوات غير تقليدية"، وهي استثمارات دخل ثابت لا تُتداول علناً، وذلك مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق، بحسب بيانات شركة "فاينانشال تشاينا إنفورميشن آند تكنولوجي" (Financial China Information & Technology).
ويُعزى هذا التعثر إلى أن هذه المنتجات عادةً ما تكون غير معروفة على نطاق واسع بين الجمهور، ما يقلل حافز السلطات المحلية لتقديم دعم مالي لها.
عندما أعلنت الحكومة في نوفمبر 2024 برنامج مبادلة ديون بقيمة 12 تريليون يوان، صرح وزير المالية الصيني لان فو آن أن هذه الخطوة قد توفر نحو 600 مليار يوان من مدفوعات الفوائد على مدى 5 أعوام، ما يمكن الحكومات المحلية من التركيز على المشاريع الداعمة للنمو بدلاً من الانشغال بخدمة الديون.
يتوقع محللو وكالة التصنيف الائتماني الأمريكية "فيتش ريتينغز" أن تسهم التدابير الحكومية في تخفيف أعباء إعادة التمويل وتحسين مستويات السيولة لدى أدوات تمويل الحكومة المحلية. إلا أن هذا البرنامج لا يعالج مشكلة الديون الخفية التي تتجاوز الأفق الزمني المحدد بـ5 أعوام، ولا الديون المسجلة في الميزانيات العمومية للحكومات المحلية، ما يعني أن مشكلات الديون ستظل قائمة على المدى الطويل.
وقدرت "فيتش" أن إجمالي حجم الديون الخفية المُعلنة في الصين ابتداء من 2023 بلغ نحو 14.3 تريليون يوان، أي ما يقل عن 25% من إجمالي الديون المترتبة على أدوات تمويل الحكومة المحلية في البلاد.
ما تأثير ذلك في الاقتصاد الأوسع؟
يمثل حجم الديون في قطاع أدوات تمويل الحكومة المحلية تهديداً حقيقياً للاقتصاد الصيني الأوسع، نظراً لانكشاف طيف واسع من المؤسسات المالية على هذا القطاع، بدءاً من البنوك التجارية من خلال وحدات إدارة الثروات، وصولاً إلى شركات التأمين وصناديق الاستثمار المشتركة وشركات الأوراق المالية وصناديق التحوط.
كما تعتمد الحكومات المحلية على التدفقات المالية من هذه الأدوات للعب دور محوري في تحفيز ثاني أكبر اقتصاد في العالم، في وقت يكافح فيه للخروج من دورة طويلة من الانكماش. وفي حال اضطرت السلطات المحلية إلى تقليص حجم اقتراضها، فإن ذلك من شأنه تعميق مخاطر الدخول في ركود اقتصادي طويل الأمد.
كيف انعكست مبادلة الديون على ثقة المستثمرين؟
منذ أن كشفت الحكومة عن برنامج مبادلة الديون، شهدت السندات المرتبطة بأدوات تمويل الحكومة المحلية إقبالاً كبيراً من المستثمرين، بدافع قناعة سائدة بأن الدولة ستتدخل دائماً لتفادي حدوث حالات تعثر في السداد.
وقد أدت المنافسة المحتدمة بين المستثمرين على هذه السندات إلى تراجع متوسط العائد (الكوبون)، وهو سعر الفائدة الذي تدفعه الجهات المُصدرة للمستثمرين، ليصل إلى 2.46% خلال الربع الأول من 2025، وهو أدنى مستوى يُسجل في أكثر من عقدين في مقارنات مماثلة، بحسب بيانات جمعتها "بلومبرغ".