صناعة التأمين التكافلي .. «العدالة المرنة» تصحح مسار الطائر الإسلامي
تبدو صناعة التأمين التكافلي خارج إطار تداعيات الأزمة المالية العالمية، فقد نجح قطاع التأمين التكافلي بالنأي بنفسه عن التأثر بالتراجعات التي شهدتها شركات التأمين التقليدية، ما دعا الخبراء للقول بأن ''الأزمة'' خلقت لهذه الشركات فرصاً أفضل على المديين القريب والبعيد.
في المؤتمر السادس للاتحاد العالمي لشركات التكافل والتأمين الإسلامي الذي بدأ يوم 2009/06/16 في عمان تحت عنوان ''التأمين الإسلامي رؤى لحلول اقتصادية'' ونظمته شركة التأمين الإسلامية، توصل خبراء التأمين إلى نتيجة تقول: إن أسواق التأمين الإسلامي غير محصنة كلياً من تأثيرات الأزمة العالمية .
توقع تقرير أصدرته '' أرنست أند يونغ'' لعام 2009 أن يصل حجم سوق التكافل على مستوى العالم إلى 7,7 مليار دولار بحلول عام 2012، فيما يقدر معدل نمو صناعة التأمين الإسلامي على مستوى العالم بما يزيد عن 25 في المئة سنوياً، وبين عامي 2004 و2007 نمت مساهمات التكافل من 4,1 مليار دولار إلى 4,3 مليار دولار، ولا يتجاوز حجم سوق التكافل في الوقت الحالي 20 في المئة من إجمالي حجم سوق التأمين العالمي.
ورجح الخبراء مواصلة قطاع التأمين التكافلي النمو بمعدلات أفضل من التأمين التقليدي خلال الفترة المقبلة، نظرا لارتفاع الطلب على هذا القطاع، مما حدا بالشركات التقليدية إلى التحول إما للتكافل بشكل كامل أو فتح نوافذ للتأمين التكافلي لديها..
مجلة "المصرفية الإسلامية" تطرح هذا الملف كغلاف لهذا العدد وتستعرض فيه رؤى الخبراء في مجال التأمين التكافلي وركائزه الثلاث؛ القطاع المصرفي (رأس الطائر) وقطاع الإستثمار (الجناح الأيمن) وقطاع التأمين (الجناح الأيسر).
تناولت ورقة بحثية بعنوان "تقييم تطبيقات وتجارب التأمين التكافلي الإسلامي" جوانب القوة والضعف في تلك التجارب الناشئة. كما طرحت الحلول التي يمكن بها تلافي نقاط الضعف والتغلب عليها بما يحقق الصمود والتقدم لتلك الصناعة التي رسمت الصورة النهائية لنموذج الطائر الإسلامي حيث إنها أحد جناحي الاقتصاد الإسلامي.
استكمال نموذج الطائر الإسلامي
ويبدأ الباحث د. رياض منصور الخليفي بالإنجازات وجوانب القوة لصنعة التأمين التكافلي، ويرى أن من أهم هذه الإنجازات استكمال مكونات "الطائر الإسلامي" الذي يشير إلى منظومة الاقتصاد الإسلامي، وذلك من خلال بناء الركيزة الثالثة من ركائز الاقتصاديات الحديثة (القطاع المصرفي ـ رأس الطائر- وقطاع الاستثمار-الجناح الأيمن- وقطاع التأمين ـ الجناح الأيسر). وحتى وقت قريب كانت المؤسسات المصرفية والاستثمارية الإسلامية تعاني من ارتفاع مخاطر أعمالها وعملياتها التي من المفترض أن تغطيها شركات التأمين. ولكن نظراً لأن هذه الصناعة كانت تسيطر عليها شركات التأمين التقليدي فقد تسبب هذا في حرج شرعي مما هدد نمو مسيرة المؤسسات الإسلامية لفترة كبيرة. وكان لظهور التأمين التكافلي دور مهم كبديل ومنافس في آن واحد وهو ما أسهم في تخفيف حدة المخاطر التي كانت تتعرض لها المؤسسات الإسلامية في أغلب منتجاتها وعملياتها. وقد أسهم هذا النوع من التأمين في تقديم دعم استراتيجي لنمو الطائر الإسلامي واتساع نطاق أعماله ومنتجاته بأقل قدر ممكن من المخاطرة.
وعلى سبيل المثال فلم تكن المؤسسات الإسلامية تستفيد من الأهمية الاستراتيجية لمنتج التأمين على الديون نظراً لأنه منتج يتم تقديمه من خلال إطار تقليدي به مخالفات شرعية. ونجح منتج التأمين على الديون الإسلامية في تحجيم مستوى الخطر الذي كان يهدد الديون الإسلامية نتيجة تحقق خطر الوفاة أو العجز الكلي للعميل المدين.
ومن الإيجابيات التي يرصدها الباحث نجاح صناعة التأمين التكافلي في المنافسة الميدانية لسوق التأمين التجاري حيث نجحت في اقتحام ميدان المنافسة من خلال تطوير نظام فني يقدم الخدمات التأمينية المطابقة للشريعة كأحد الاحتياجات الضرورية في العصر الحديث. وقد أسفر هذا عن تحول الكثير من شركات التأمين التقليدية إلى النموذج الإسلامي سواء بالتحول الكلي بأن تعيد الشركة تصميم عقد التأسيس لينص على أنها تلتزم بأحكام الشريعة مثل شركة "وربة" للتأمين الصحي بالكويت. وهناك التحول الجزئي حيث تقدم الشركة التقليدية خدمات التأمين التكافلي إلى جانب خدماتها التقليدية حتى أن بعض الشركات العالمية أعلنت عزمها تقديم خدمات التأمين الإسلامي. وثمة تحول أخير وهو التحول الموازي وفيه تقوم الشركة التقليدية بالمشاركة في تأسيس شركات تكافلية. ومن أمثلة ذلك قيام شركة "الأريج" بالبحرين بالمشاركة في تأسيس شركة تكافل "ري" بنسبة 59في المئة. ومثلها شركة البحيرة الإماراتية التي أسست شركة تكافل كأسلوب آمن من أساليب التحول.
كوادر متميزة تبعث الفكر الفقهي
ومن جوانب القوة في نظام التأمين التكافلي أنه أسهم في بناء خبرات وكوادر تأمينية ملتزمة بتطبيق أحكام الشريعة في تطبيق وتقديم خدمات ومنتجات التأمين. ويرصد الباحث تنامي المزاوجة بين الخبرة التأمينية والالتزام الشرعي مما أدى لظهور التنوع والثراء في آليات التطبيق التكافلي ومدارسه الفنية.
ومن أبرز ما أفرزته تجربة التأمين التكافلي بعث الفكر الفقهي نحو تطوير منتجات تكافلية منافسة للتأمين التقليدي بحيث تتداخل آليات صناعة التأمين مع آليات مالية إسلامية أخرى في الفقه الإسلامي.
وثمة بعد مهم وهو الأثر الاقتصادي الكلي بالغ الخطورة لصناعة التأمين التكافلي. ونظراً لأن صناعة التأمين بشقيه تقوم على استقطاب الأقساط المالية من العملاء أي أنها تستحوذ على نصيب كبير من المدخرات القومية وبالتالي فهي تعتبر من الأوعية المالية المنافسة لودائع البنوك. وعندما تنجح مؤسسات التأمين التكافلي في حيازة أكبر قدر من تلك المدخرات فإنها تحرم مؤسسات التأمين التقليدي منها والتي بدأت بالفعل في تفقد معدلات متزايدة من الأقساط التأمينية المعتادة وهو ما اعتبره الباحث إيجابية شرعية واقتصادية أولية. كما أن استثمار المؤسسات التأمينية الإسلامية تلك المدخرات من خلال أوعية استثمارية مطابقة للشريعة يعزز مسيرة الاقتصاد الإسلامي وفي نفس الوقت فإنه يحجب تلك المدخرات عن القطاع التقليدي الربوي بجميع تطبيقاته المصرفية والاستثمارية. يضاف إلى هذا بعد اقتصادي آخر وهو أن مؤسسات التأمين التكافلية إذا تعرضت لعجز في السيولة فإنها ستلجأ إلى مصادر تمويل لا تخالف أحكام الشريعة مما يعني أنها ستعزز الأداء الكلي لمسيرة البنوك ومؤسسات التمويل الإسلامي على حساب تخفيض الطلب على إجمالي التمويل والائتمان التقليدي.
ومن أهم النجاحات التي حققها الاقتصاد الإسلامي المعاصر إصدار معيارين دوليين بشأن صناعة التأمين التكافلي الإسلامي وهما المعيار الشرعي (26)، والمعيار المحاسبي (12). وتناول المعيارين تفاصيل مهمة في صناعة التأمين التكافلي.
التحكيم بديلاً عن القضاء التجاري
تواجه صناعة التأمين التكافلي تحديات عديدة يسردها د. الخليفي في ورقته البحثية. أبرز هذه التحديات هو خضوع شركات التأمين في ترخيصها وأعمالها ومنتجاتها الإسلامية إلى قانون التأمين التجاري التقليدي على الرغم من الطبيعة الخاصة للتأمين التكافلي. وتبرز الإشكالية في اعتبار القضاء أن شركات التأمين التكافلي هي شركات ذات أغراض ومقاصد تجارية ربحية محضة تماماً كالتأمين التجاري وهو ما يخالف واقعها الفني.
وتسعى الشركات التكافلية إلى اتخاذ التدابير القانونية التي تعالج مثل هذه الإشكالية حيث تعتني بوضع الشروط والضوابط التي تقلل من صلاحية القضاء في تطبيق نصوص قانون التأمين التجاري. وكذلك فإنها تلجأ إلى نظام التحكيم (الشرط/المشارطة) الذي يطلق عليه "العدالة المرنة" كبديل استراتيجي عن إشكالات التقاضي أمام القضاء التجاري. ويمتاز التحكيم باختصار زمن التقاضي وسرية المعلومات وقلة التكاليف نسبياً ومنع اللدد والشقاق في الخصومة. ولكن الباحث يرصد عدم تفعيل هذه الوسيلة الاستراتيجية نظراً لغياب ثقافة التحكيم.
تفعيل هيئة المشتركين
ومن التحديات البارزة صورية هيئة المشتركين في الشركة التكافلية، فالأثر القانوني لهذا المصطلح لا يزال (صورياً) على الرغم من أثره المالي الواضح. ويطرح عدداً من التدابير الكفيلة بتحقيق استقلالية هيئة المشتركين ومنها إنشاء كيان قانوني حقيقي يعرف بهيئة المشتركين، وتمثيل المشتركين بأعضاء في مجلس إدارة الشركة لهم حق التصويت، وتمثيل المشتركين بالحضور في الجمعية العامة للمساهمين، وعقد جمعية عامة للمشتركين يكون لها حق التحفظ على أداء مجلس الإدارة.
ومن التحديات المهمة غياب المعيار الشرعي الخاص في الضوابط الشرعية للتغطيات التأمينية ولاسيما في ظل تعدد وتنوع صور التغطيات التأمينية التكافلية. ويعمل هذا المعيار على تقريب المعرفة الشرعية المقننة لجميع العاملين في شركات التأمين والمتعاملين معها.
#2#
وثمة تحدٍ يتمثل في ضعف مهام التفتيش والرقابة الشرعية اللاحقة حيث إن الواقع العملي لشركات التأمين يؤكد على ضعف دور التدقيق والمراقبة الشرعية الميدانية على الأعمال والعمليات التي تمارسها الشركة. ومن السلبيات الخطيرة اعتبار بعض الشركات أن هيئات الرقابة إنما هي أداة مساعدة يتم الرجوع إليها عند اللزوم.
ويشير الباحث إلى أن الواجب الشرعي يحتم أن يتم تخصيص رقابة شرعية فعلية طبقاً لقاعدة "ما لا يتم الواجب به فهو واجب". يعتبر غياب الهيئة العليا للتأمين التكافلي من أهم نقاط الضعف والقصور في تلك الصناعة. ويجب أن تكون هناك هيئة عليا تتولى مجموعة من المهام والاختصاصات الجوهرية والمتعلقة بتنظيم وتقنين الصناعة على المستويين الشرعي والفني التأميني. ويعد الجانب الأخلاقي من التحديات المهمة إذ يجب على الشركات التكافلية أن تعتني بمبدأ الشفافية والإفصاح وبذلك تحقق القيمة الاستراتيجية لصناعة التكافل والتي تميزها عن التأمين التجاري .